يبدو أن ما نراه من الساحة الإسلامية التركية ليس إلا قمة جبل الجليد الذي يخفي أكثر مما يظهر حراكا وتنوعا وجدالا داخليا فريدا يمكن أن ينتهي -ربما قريبا- بتغيير جذري وغير مسبوق في الحركة الإسلامية التركية والحركات الإسلامية عموما، خاصة إذا ما عرفنا أنه يؤشر إلى صعود اتجاه متعاظم يدعو إلى تغيير التحالفات التاريخية للإسلاميين، بحيث تتجه إلى تقارب مع اليسار الذي كان -وإلى وقت قريب- الخصم الأول للحركات الإسلامية على اختلافها.
أكتب عن خلاصة الملتقى الذي حضرته في تركيا، والذي نظمه المثقفون الإسلاميون المستقلون الأتراك قبل أيام لبحث مستقبل الإسلاميين الأتراك والتحديات التي تواجههم، خاصة مع تصاعد الجدل حول قضايا الحجاب، وتصاعد الحملة العلمانية ضد حزب العدالة والتنمية "الإسلامي"، هذا غير الصراع الإسلامي الداخلي كما يبدو بين حركة "مللي جورش" (الفكر الوطني) بزعامة الزعيم التاريخي "نجم الدين أربكان" وبين تلامذته "طيب أردوغان" و"عبدالله جول"، والجيل الذي قاد أكبر انشقاق في الحركة واستطاع الوصول إلى رئاسة الوزارة ورئاسة الجمهورية.
تغيير الإسلاميين من خارج تنظيماتهم
الملتقى هو الثاني في غضون عام، لم تحدد له دورية ثابتة بعد، ولكن الأغلب أن يعقد ثلاث مرات سنويا، وكان المؤتمر الأول قد عقد قبل خمسة أشهر تقريبا، وتقوم فكرته على ممارسة السياسة بشكل حر، والتأثير غير المباشر في الأفكار والممارسات السياسية للإسلاميين، ولكن من خارج الأطر التنظيمية والحركية، وعدم التقيد بها.
منسق المؤتمر هو السيد "محمد بكار أوغلو"، وهو مثقف تركي مشهور بمبادراته الفكرية والثقافية طوال ربع قرن، فهو منسق مبادرة "مؤتمر الشرق" الشهيرة، والتي انطلقت أثناء الغزو الأمريكي للعراق، وكانت تهدف إلى توجيه النخب التركية المثقفة على اختلافات توجهاتها الفكرية والسياسية للانفتاح على الشرق كفضاء طبيعي لتركيا، والتنسيق مع نُخَبِه وتياراته بغرض توحيد الجهود في التصدي للمشروع الإمبريالي الأمريكي.
وبكار أوغلو الذي يعمل أستاذا لعلم النفس في جامعة البحر الأسود كان ناشطا في حزب السعادة قبل أن يجمد نشاطه مؤخرا كمساعد لرئيس الحزب، وهو إسلامي معروف بانفتاحه على اليسار وقيادته للتوجه الداعي للتقارب بين الإسلاميين واليساريين في مواجهة الإمبريالية الغربية وسياسات السوق.
آخر مبادرات بكار أوغلو كانت لتأسيس حركة سياسية أخرى تجمع بين الإسلامية واليسارية (المبادرة السياسية الجديدة)، وكان يقودها معه وزير الثقافة في الحكومة الحالية "أرطغرل جوناي" وهو يساري لكن غير معروف عنه العداء للدين أو المتدينين، وبرغم أن المبادرة تعثرت بسبب خلافات بين الطرفين إلا أن كليهما يؤكد أنها مازالت صالحة وقابلة للتحقق خاصة وأن التحدي الأكبر في نظر الجميع هو سياسات العولمة ونتائجها الكارثية على الناس خاصة في الطبقات الفقيرة.
(المبادرة السياسية الجديدة) تقوم على فكرة أنه لا حل لتركيا إلا بالتقارب الإسلامي اليساري ولو في حده الأدنى الذي يوقف المعارك بين الطرفين، وأن تيارا جديدا يجمع القواسم المشتركة بين الإسلاميين واليساريين مما يفيد الشعب التركي صار ضرورة ملحة خاصة في ظل انحياز حكومة حزب "العدالة والتنمية" ذات التوجه الإسلامي إلى اليمين وسياساته النيوليبرالية، وانحياز حزب الشعب الجمهوري أقوى أحزاب اليسار للسياسات الكمالية العلمانية المتطرفة التي تكرس الاستبداد وتعصف بالحريات الخاصة.
في منتجع البورجوازية المتدينة
العلمانية التركية المتطرفية تريد أن تعصف بالحريات الخاصة
الطريف أن مكان انعقاد الملتقى كان في أحد أهم منتجعات البورجوازية التركية المتدينة بمنطقة كيزل جا همّام (أو منطقة الحمّام الأحمر) المعروفة بسخونة المياه وحمرة التربة وهي تبعد نحو70 كيلومترا عن العاصمة أنقرة في الطريق نحو إستانبول، ويكشف هذا المنتجع (أسيا) جزءا من صورة الوضع الاجتماعي والاقتصادي للإسلاميين الأتراك، فهو منتجع سياحي ضخم وراق في قلب المرتفعات الجبلية الخلابة، تتجاور فيه الإقامات الفندقية العادية مع الشقق والفيلات الفندقية بنظام التمليك الدوري (التايم شير) في أجواء محافظة؛ حيث تتوفر أماكن خاصة للنساء بلباسهن المحافظ في قاعات الرياضة وحمامات السباحة وأماكن الترفيه المختلفة التي يعج بها المنتجع ومنها الحفلات الموسيقية والغنائية "المحافظة".
وقد عرفت في أثناء تجوالي في المنتجع على هامش الملتقى، وفي فترات الاستراحة أن المنتجع هو مقصد الصفوة الإسلامية، وأنه كثيرا ما استضاف اجتماعات قيادات حزب العدالة والتنمية وكثيرا من التنظيمات والتيارات الإسلامية الأخرى، لم تجد النخبة الإسلامية التي اجتمعت لتقييم ونقد تجربة العمل الإسلامي في تركيا بأسا من الإقامة في المنتجع نفسه المفضل لقيادات الحركات الإسلامية، وإن التزم كل مشارك بتحمل تكلفة إقامته كاملة؛ إذ ليس للمتلقى ممول أو داعم إلا أصحابه.
مستقلون من ألوان الطيف الإسلامي
وجهت الدعوة لمائة مثقف تركي حضر منهم خمسة وستون، وكنت الضيف الوحيد غير التركي في الملتقى، وكان لذلك صعوبة كبيرة؛ إذ إن كل النقاشات كانت -بالطبع- بالتركية التي أكاد لا أعرف منها إلا بعض كلمات، فكان من الصعب الالتزام بعبء الترجمة لضيف واحد، وهو ما قام بتحمله مشكورين الأصدقاء "توران قشلاقجي" و"إسلام أوزكان" و"خيرالدين قيرباش" بكل ود ومحبة.
غالبية أعضاء الملتقى إسلاميون مستقلون يفضلون العمل المؤسسي المدني عن التنظيمي الحركي، بعضهم انتمى إلى تنظيمات إسلامية في بعض فترات حياته، وبعضهم انتقل إلى تخوم الحركة ولم يغادرها كاملا ليحتفظ بدرجة من درجات التأثير (مثل بكار أوغلو نفسه منسق الملتقى)، كلهم يريدون مجتمعا إسلاميا بصورة ما فيه من قيم ومبادئ، وغالبيتهم لهم تأثير في الرأي العام وخاصة الإسلامي منه.
حضور الملتقى يمثلون -تقريبا- كل ألوان الطيف الإسلامي من حدود السلفية في طبعتها التركية المخففة إلى تخوم الإسلام "الحداثي" الموغل في الحداثة، وإن بدا عدم اهتمام الجماعات الصوفية التقليدية (مثل النورسيين والسليمانيين) بالمشاركة في نقاشات هذا المؤتمر، وهو ما يمكن تفهمه في ضوء نظرة الجماعات الصوفية بريبة لهذه التجمعات، وطبيعة مناقشاتها التي تخرق سيطرتها على أتباعها.
الملاحظة التي لا تخطئها العين أن التقنيين والتكنوقراط كانوا يمثلون القطاع الأكبر من المشاركين بالمؤتمر، ومعظمهم لا صلة له بالدراسات الإسلامية ويبدو أنها سمة تغلب على الحركات الإسلامية عموما وليس في تركيا، فأغلب قادتها وكوادرها من الأطباء والمهندسين والمهنيين ورجال الأعمال ويندر بينهم ذوو التخصص في الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية.
ومن بين الحضور الذي بلغ خمسة وستين مشاركا لم يكن هناك سوى امرأتين فقط من الناشطات المعروفات في الوسط الإسلامي؛ الأولى "داية شوكت لي" وهي ناشطة نسويه في (جمعية نساء العاصمة) التي تدافع عن حقوق المرأة المسلمة، وهي سيدة منفتحة على التيارات العلمانية في نشاطها، بل ويبدو عليها التأثر ببعض مقولاتها، وهي تحمل الدكتوراه في السنة وعلومها، وتدير مدرسة للمعوقين وروضة للأطفال، أما الثانية "فاطمة أكدوكو" وهي باحثة دكتوراه في السنة النبوية، وكانت قبلها قد نالت الماجستير في الفقه، وهي إسلامية مستقلة.
انعقد الملتقى على يومين خصص كل يوم منهما لمحور مستقل، فكان اليوم الأول للسياسة، فيما خصص الثاني للاقتصاد، غلبت على الملتقى النقاشات العامة غير المركزة على الحوار، وقد أدت -في بعض الأوقات- إلى ما يشبه الفضفضة غير المنضبطة، وإن كانت لا تخلو من أطروحات مفيدة.
إعادة النظر في الفكر السياسي الإسلامي
كانت السياسة محور اليوم الأول للملتقى، وبدا أن النقاش بين الإسلاميين المستقلين حولها والقضايا المطروحة بشأنها ليس له سقف، وإن كانت الأفكار والأطروحات تحاول أن تتلمس لها سندا إسلاميا في إطار مبدأ تعددية فهم الإسلام، وأنه ليس نموذجا واحدا بالضرورة.
بعض الباحثين مثل "إحسان إللّي أتشك" الكاتب في مجلة (الكلمة والعدالة) دعا إلى التوقف عن طرح الدولة الإسلامية والانتقال إلى دولة العدالة، وطالب الإسلاميين بإبعاد مصطلح "الإسلامية" من قاموسهم السياسي، وأن يكون كلامهم عن العدالة والعدالة فقط.
"عثمان بستان" الإسلامي القريب من القوميين تطرق -عندما تحدث عن الخلفية التاريخية للتطورات السياسية الجارية في تركيا- إلى قضية شائكة وشبه محرمة عند الإسلاميين؛ وهي الموقف من "مصطفى كمال أتاتورك" مؤسس الدولة الحديثة، فدافع في حديثه عن أتاتورك، وطالب أن يعيد الإسلاميون قراءة الرجل قراءة جديدة أكثر إنصافا؛ فهو-برأيه- لم يكن على عداء مع الإسلام، وإنما كانت سياساته مرهونة بظروف سياسية ولحظة تاريخية معينة، كان رهانه فيها على كيفية الإبقاء على تركيا نفسها دون تقسيم، ويرى بستان أن العلمانية كانت فرضا على تركيا في سياق حسابات تاريخية كبرى.
"خير الدين قيرباش" أستاذ الدراسات الإسلامية في كلية الإلهيات بجامعة أنقرة، والمفكر البارز المعروف خاصة في العالم العربي كان له نقد حاد للحالة الإسلامية برغم انتمائه لها، وتكلم كثيرا عن ضعف الوعي السياسي للإسلاميين الأتراك بالعالم، وكيف أنهم يرتمون من دون وعي في أحضان المشروع الأمريكي المعروف بالشرق الأوسط الجديد؟ والذي يعتمد شعبيا على جماعة "فتح الله كولان" كبرى الجماعات الصوفية النورسية، فيما يعتمد حكوميا على حزب العدالة والتنمية ذي الخلفيات الإسلامية الليبرالية.
"هدايت شوكت لي" الناشطة الإسلامية في العمل النسوي حلقت بعيدا، وطرحت أفكارا أقرب إلى الأطروحات النسوية التي تتمحور حول الأنثى؛ مثل نقد التراث الإسلامي في مسألة المرأة وإعادة قراءته قراءة أنثوية منصفة للأنثى، وطالبت الإسلاميين بالدعوة لترشيح امرأة رئيسا للجمهورية، وقد لاقت أفكارها ردود فعل سلبية ليس من زاوية فقهية، بل باعتبارها قفزة خارج سياق المجتمع التركي وأولوياته، كما ذهب الإعلامي "توران قشلاقجي" مدير شبكة "تايم تورك" الذي قدم نقدا قويا لهذه الأطروحات باعتبارها لا تناقش المشكل الحقيقي للإسلاميين، وتطرح مطالبا نخبوية أو فردية لا يمكن أن يجتمع عليها حركة إصلاحية.
إلهامي جولر أستاذ في العقيدة والكلام بكلية الإلهيات جامعة أنقرة حذر من خطورة ما أسماه العلمانية المستترة تحت الإسلامية وبين الإسلاميين، ولاحظ أن هناك تسرب وتمدد للعلمانية المادية في صفوف الإسلاميين، حتى على مستوى الخطاب الذي صار يتهرب حتى من مفردات الشريعة خوفا من الاتهام بالأصولية، وقال: "إنه يجب عليهم التعاون مع كل التيارات للتصدي لما اعتبره العلمانية الشاملة التي تقصي الدين عن كل مجالات الحياة"، وهو في ذلك طرح أفكارا قريبة الشبه بما كان يطرحه المفكر الكبير "عبد الوهاب المسيري" -رحمه الله- أو ربما كان متأثرا بكتاباته خاصة موسوعته (العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية).
كان هناك اتفاق بين المشاركين أن أكبر نقاط الضعف في الفكر السياسي عند الإسلاميين أنهم يفترضون أن وصولهم للحكم وتوليهم السلطة هو بداية حل المشكلات، وكأن كل المشكلات رهن بغياب التدين، في حين أن الأخلاق لا تكفي وحدها، بل لا بد من بناء نظام يترجم المبادئ ويراقبها، وأنهم يجهلون سنة أن التغيير يكون دائما من أسفل وأن الأولوية للمدخل المجتمعي وليس السلطوي، كما بدا أن هناك اتفاق على عدم نضج ثقافة الإسلاميين وتصوراتهم عن الدولة الحديثة.
كان هناك ملاحظات مفيدة في هذا النقاش من مثل التنويه "بفيض الله كيكلق" رئيس بلدية "بغشيلار" الفقيرة (نائب عن حزب العدالة والتنمية) الذي أوجد نظام رقابة مباشرة للناس على ميزانية البلدية، كذلك الملاحظة بضعف المجتمع المدني لحزب العدالة والتنمية مقارنة باليسار، بل وضعف قواعده ومنظماته الشبابية مقارنة بنظيره الإسلامي حزب السعادة وجماعة الفكر الوطني (مللي جورش) التي تمتلك منظمة شبابية قوية (منظمة شباب الأناضول)، ثم الملاحظة الفارقة أن التوجه الأكثر انتشارا في الأوساط الشبابية هو التيار القومي الوطني التركي.
تصالح الإسلاميين مع الاشتراكية
برغم أن الوقت المخصص لقضية الاقتصاد كان يوما واحدا إلا أنه احتل فعليا الجزء الأكبر من نقاشات المؤتمر ووقته باعتبار أن المشكل الأكبر في تركيا هي المشكلة الاقتصادية، كما بين الباحث والمحلل السياسي المعروف "علي بولاج" في مداخلته، فتركيا -في رأي كثير من المشاركين- فقدت استقلالها بسبب أزمة الاقتصاد بعدما صارت مدانة للمؤسسات الدولية (صندوق النقد والبنك الدولي) وخضعت لقراراتها، تخصص تركيا نحو40% من ميزانيتها السنوية لخدمة فوائد الديون، وهناك هوة متصاعدة بين الطبقة الفقيرة (نحو 25 مليونا) وبين الأغنياء، ويقدر بعض الحضور أن نحو 3 ملايين تركي على حد المجاعة.
يتهم كثير من الإسلاميين المستقلين حزب "العدالة والتنمية" بأنه أهتم بنيل رضا المؤسسات السياسية والسيادية والاقتصادية الحاكمة، مثل الجيش والتوسياد (أهم تجمع لرجال الأعمال) والمستثمرين الكبار خاصة الغربيين وأباطرة الميديا (مثل أيدين دوغان) ممن لهم مصالح في الإبقاء على الوضع الحالي، فجاءت سياسات حكومة العدالة والتنمية يمينية نيوليبرالية تصب في النهاية لمصلحة كل هؤلاء على حساب الفقراء، في حين يؤكد بعضهم أن الحزب ذي الجذور الإسلامية ليس مسئولا بالكامل عن هذا الوضع الذي كان في معظمه نتاج للسياسات الشعبوية التي سنها "سليمان ديميريل" طوال فترة حكمه، والتي اتبع فيها سياسة التوسع في التوظيف لمصالح أو رشاوى سياسية، وهو ما أفسد دولاب الدولة، وخلق البطالة المقنعة، ومن ثم فتح باب الاقتراض من الخارج.
من أهم القضايا الاقتصادية التي ناقشها الملتقى وضع الاقتصاد التركي القائم على نظام الخصخصة التي طالت كل شيء حتى المؤسسات الرابحة وبثمن زهيد، السياسات النيوليبرالية التي حدت من دور الدولة لصالح رجال الأعمال، وخلقت حرية اقتصادية غير محكومة أو مضبوطة، فدور الدولة في المجال الاقتصادي وتوجه السياسات الاقتصادية الحرة وحجمها، وقضية العدالة الاجتماعية، وتزايد معدلات الاستهلاكية التي فاقت طاقة الإنتاج هو ما زاد من ثقافة القروض؛ حتى صارت البنوك هي المؤسسات الاقتصادية الرابحة الوحيدة، وسيطرة رأس المال الأجنبي الذي توسع في السيطرة على معظم البنوك التركية، وسوق البورصة حتى صار يتحكم في نحو70% منها.
الملاحظة أن المثقفين الإسلاميين ناقشوا هذه القضايا الاقتصادية بمنطق ومقاربات اقتصادية بحتة (كيفية تصفية الديون وزيادة الإنتاج وتقليل الاستهلاكية) وتجنبوا تماما المقاربة الفقهية والهوياتية، حتى أن بعض المشاركين تكلم عن أنه لا يوجد شيء اسمه اقتصاد إسلامي، وأنه ينبغي التوقف عن هذا الخطاب، وحتى الإحكام والمسائل الفقهية (مثل قضية الربا) كان الحديث بمقاربة اقتصادية بحتة، فتم ربطها بالوضع الاقتصادي باعتبار أن الربا رهن بالتضخم، والقضاء على الربا لن يكون بقوانين مباشرة بقدر ما سيكون بإصلاح اقتصادي يقضي على التضخم.
غلب على النقاش في المسألة الاقتصادية النقد الذاتي والأطروحات الجريئة، كان لافتا النقد العنيف لكثير من الظواهر السلبية في مجتمعات الإسلاميين مثل الاستهلاكية، وسيطرة ثقافة الاستهلاك، بل والتبذير حتى على جمهور المتدينين (تنتج تركيا 120 مليون رغيف خبز يوميا يذهب منها 10 مليون للقمامة) تكلم البعض عن "تحول المجاهدين إلى مقاولين "وعن" انتقال الطرق من التصوف إلى التصرف"، وتكلم آخرون عن "الرأسمالية المتوضئة" أو رجال الأعمال الذين يطبقون قواعد رأسمالية كاملة لكنهم يصلون ويؤدون الشعائر؛ ضرب البعض مثالا بشركة "أولكار" وهي شركة إسلامية تعمل بالغذاء، ولا تعطي العمال حقوقهم فتوظفهم بشكل مؤقت، وترفض تعيينهم أو التأمين عليهم، تحدث البعض عن أن حزب العدالة والتنمية يصنع بورجوازية متدينة على حساب القيم الإسلامية والإنسانية.
بشكل عام كان هناك إحساس عارم بوطأة سياسات التحرير الاقتصادي على الناس، وآثارها السلبية على المجتمع، فغلبت الدعوة إلى أن يولي الإسلاميون أولوية قصوى للمسألة الاجتماعية، وأن يحسموا موقفهم بالانحياز الشامل للفقراء والطبقات الكادحة؛ حتى ولو كان ذلك بتبني المقولات الاشتراكية، بحيث كان هناك شبه اتفاق على ضرورة تطوير الرؤية الإسلامية في المسألة الاجتماعية، حتى أن الباحث "جيهان شير إسلام" قال: "إن من يقف ضد السياسات الاشتراكية يقف ضد الإسلام".