سبعينيات القرن العشرين، ومع بداية حقبة الإحياء الديني، شهدت الحركة الإسلامية تغيرا في دورها السياسي، والذي مر بمراحل مختلفة من الصعود والهبوط، ولم يكن مساره خطيا تصاعديا، وكلما تزايد حضور الحركة الإسلامية في المجال السياسي كلما أصبح أي هبوط في منحنى هذا التواجد أكثر بروزا.
ويرى المراقبون أن الحركة الإسلامية شهدت صعودا واضحا في عامي 2005 و2006، ثم شهدت تراجعا في عامي 2008 و2009، ودلالة هذه الموجة من التراجع النسبي، لها علاقة بحجم الصعود الحادث قبلها، ومن الطبيعي أن يشهد الدور السياسي لأي تيار مراحل من الصعود وأخرى من التراجع، ولكن دلالة تلك الموجات تختلف بين التيارات السياسية؛ لذا يصبح من المفيد فهم معادلة صعود وهبوط الحركة الإسلامية؛ لأنها تكشف لنا عن الصورة المستقبلية لدور الحركة الإسلامية في صياغة مستقبل الأمة.
أما الإحياء فمستمر
ليست الحركة الإسلامية مجرد ظاهرة في حد ذاتها، بل هي جزء من ظاهرة أوسع، وهي ظاهرة الإحياء الديني، والتي شهدتها المنطقة العربية والإسلامية، والإحياء الديني يمثل بروزا لظاهرة التدين، وتزايد دور الدين في الحياة الخاصة للجماهير، وأيضا تزايد دور الدين في الحياة العامة، والإحياء هو أيضا حالة من اللجوء للدين، يمر بها المجتمع في لحظة معينة، يرى فيها أنه قد ابتعد عن الدين، وأن ما يمر به من أزمات مرجعه بعده النسبي عن الدين، ومع اللجوء للدين كملاذ آمن للهوية والمرجعية، ومع تزايد ظاهرة التدين يحدث الإحياء الديني ممثلا في حالة حركية نشطة تشترك فيها عدة مكونات من المجتمع، من الرموز الدعوية والفكرية والحركات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وحالة الحراك النشط، هي التي تميز مرحلة الصحوة والإحياء؛ حيث يكون وجود الدين في حياة المجتمع والأفراد نشطا ومؤثرا، وباعثا على الفعل والحركة.
والملاحظ لما يحدث منذ سبعينيات القرن العشرين، أن حالة الصحوة الإسلامية مستمرة وفي تصاعد مستمر، وعبر هذه الفترة الممتدة نجد تزايد رشد حركة الصحوة ونضج أفكارها ورسوخ رؤاها، ومع حركة الإحياء ترسخ أيضا مظاهر تواجد وحضور الدين في المجال العام؛ مما يجعلنا نفترض أن مسار الإحياء الإسلامي، كان مسارا تصاعديا مستمرا منذ سبعينيات القرن العشرين، وبهذا يكون اللجوء للدين، كمركز للهوية والمرجعية، قد أصبح عملية مستمرة تشكل المراحل القادمة في المستقبل.
دور الحركات الإسلامية
عبر مراحل الإحياء الديني، تزايد دور الحركة الإسلامية في المراحل المبكرة عن المراحل التالية لذلك؛ حيث إن موجة الإحياء الأولى ظهرت أساسا في صورة انتماء للجماعات الإسلامية، مما جعل الانتماء لجماعة إسلامية، جزء من عملية الانتماء للإحياء الديني، ولكن هذا الأمر لم يستمر، خاصة بعد أن أصبحت حالة الإحياء الديني تشمل معظم المجتمعات العربية والإسلامية، مما جعلها ظاهرة أوسع من الحركات الإسلامية، فتصبح تلك الحركات جزءا أصيلا منها وفاعلا فيها، ولا يعني ذلك أن دور الحركة الإسلامية في ظاهرة الصحوة الإسلامية قد قل، ولكن يعني أنه تغير، ففي المراحل الأولى كانت الحركة الإسلامية هي حاضنة الصحوة الإسلامية، ثم أصبحت المحرك الفاعل، والقائد النشط.
فالحركة الإسلامية، تمثل الكيان المنظم حركيا أو فكريا، والذي يبلور تيارات الصحوة الإسلامية، ويحدد ملامح التوجهات المختلفة داخل إطار ظاهرة الصحوة الإسلامية، كما أن الحركة الإسلامية بمختلف مؤسساتها الاجتماعية، تمثل الكيان النشط اجتماعيا، والذي ينظم الفعل الاجتماعي العام لظاهرة الصحوة الإسلامية، كما أنها تقوم بدور العامل النشط، الذي يضمن استمرار وتيرة تصاعد ظاهرة الصحوة الإسلامية، أي أن الحركة الإسلامية، هي الفاعل المركزي في ظاهرة استمرار صعود الصحوة الإسلامية.
الشعبية المجتمعية للحركة الإسلامية
حققت الحركات الإسلامية دورها المركزي من خلال انتشارها الجماهيري، الذي وفر لها حاضنا اجتماعيا واسعا، كما وفر لها دعما شعبيا واضحا، وكل الحركات الإسلامية مثلت حركات اجتماعية تقوم على تشكيل بنية مجتمعية، سواء كانت محكمة التنظيم أو مرنة في تنظيمها، وتلك الكتل الاجتماعية شكلت حاضنا اجتماعيا نشطا، يحمل الفكرة كما يعمل على نشرها وتطبيقها.
والملاحظ هنا، أن مسارات الحركات الإسلامية اختلفت، ما بين حركة مستمرة في انتشارها وتوسعها المجتمعي، مثل جماعة الإخوان المسلمين، وحركات ظهرت وانتشرت ثم تراجعت وبعضها اختفى، وحركات أخرى انتشرت في مرحلتها الدعوية ثم مرت بأزمة المواجهة المسلحة مع النظام وعادت إلى أسسها الدعوية مرة أخرى، مثل الجماعة الإسلامية المصرية، مما أثر على شعبيتها التي تقلصت في مرحلة الصدام المسلح، وهذا هو مشهد كل حركة من الحركات الإسلامية، أما المشهد الكلي للحركة الإسلامية فيعطي صورة تعكس الاستمرارية والتصاعد؛ حيث إن الكتل الاجتماعية المساندة للحركات الإسلامية والداعمة لها، استمر وجودها المؤثر والفاعل في المحيط الاجتماعي والمجال العام، ونعني بها تلك الكتل المؤيدة لمختلف الحركات والمؤسسات الإسلامية، والتي تعمل في المجال الدعوي أو الاجتماعي أو السياسي، وهذه النقطة تعبر عن جانب مهم من الحركة الإسلامية، فقوة الحركة الإسلامية وحضورها يقاس بحجم قاعدتها الاجتماعية المساندة لها، والتي تمثل الحاضن الاجتماعي الحامي لها، والذي يعمل على استمرار الحركة.
لهذا نرى أن الكتلة الاجتماعية الحاضنة للحركات الإسلامية، استمرت في توسعها وتصاعدها، مثلها في ذلك مثل حالة الصحوة الإسلامية نفسها، والتي استمرت في الانتشار والصعود.
تراجع عملية الدفع السياسي للحركة الإسلامية
أما في المشهد السياسي، فشهد ظاهرة أخرى تلك التي تظهر في الانتخابات السياسية، أكثر من كونها تظهر في الانتخابات الطلابية أو النقابية، ونعني بها، أن التصويت لصالح الحركات الإسلامية في الانتخابات التشريعية أو البلدية، يتصاعد في فترات ويتراجع في فترات أخرى، ومن هنا يظهر أن الدعم الذي تحظى به الحركة الإسلامية في المجال الاجتماعي أكثر استمرارية وتصاعدا من الدعم الذي تحظى به في المجال السياسي؛ حيث إن الدعم في المجال السياسي يشهد ظاهرة الصعود والهبوط، ورغم أن غالب الحالة السياسية في البلاد العربية والإسلامية لا تتوفر فيها الشروط الديمقراطية المعيارية اللازمة، فإن هذا لا يمنع من وجود تذبذب في دعم الناخبين للحركات الإسلامية في الانتخابات، وهذا التذبذب يترافق مع واقع يؤكد على أن الحركة الإسلامية لم يسمح لها بالحكم أو المشاركة فيه بصورة مؤثرة، أي إنها في كل الحالات تقف في جانب المعارضة، عدا حالة حركة حماس في فلسطين المحتلة.
مما يظهر أن الحركة الإسلامية وجدت دعما كبيرا لتكون حركة معارضة، ثم قل هذا الدعم مع استمرارها في مقاعد المعارضة، ويشير ذلك إلى انخفاض عملية الدفع المجتمعي للحركة الإسلامية في المجال السياسي في فترات معينة، وكأن المجتمع يدفع الحركة الإسلامية في المجال السياسي في أوقات أو أماكن معينة، ثم يقل دفعه لها في المجال السياسي نسبيا، في أوقات أو أماكن أخرى.
ونتصور أن تلك الظاهرة لها علاقة بحالة الكر والفر التي يقوم بها المجتمع في مواجهة السلطات الحاكمة والقوى الدولية الداعمة لها، وأيضا في مواجهة قوى العدوان الخارجي، ونظن أن هذا الأمر يجعل عملية دفع الحركة الإسلامية في المجال السياسي جزءا من حالة المواجهة المجتمعية التي تتزايد في مراحل معينة، نقصد تلك المواجهة المجتمعية تجاه كل القوى التي تفرض هيمنتها على الأمة، ولكن حركة المجتمع، مثل حركة المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي، تمر بمراحل كر وفر، أي مراحل مواجهة مستمرة، تتبعها مراحل تراجع في شدة المواجهة، ثم تليها مراحل للمواجهة مرة أخرى.
وأتصور أن تزايد وانخفاض ما تحصل عليه الحركة الإسلامية من أصوات انتخابية، رغم أنه يتأثر بالكثير من التدخلات التي تحدث في الانتخابات، كما يتأثر بالعديد من العوامل المحلية الخاصة، إلا أنه يعبر في جانب مهم منه عن حالة المجتمع تجاه ما يواجه من تحديات، فإذا غلب على المزاج العام الرغبة في مواجهة التحديات، زادت الأصوات الانتخابية التي تحصل عليها الحركات الإسلامية، وعندما يغلب على المزاج العام حالة من الاسترخاء أو التعب من المواجهة، أو إعطاء الفرصة لأمل كاذب، عندئذ تقل الأصوات الانتخابية التي تحصل عليها الحركات الإسلامية.
وهذا التصور لا ينطبق على انتخابات معينة بقدر ما يمكن أن يفسر الحالة العامة في البلاد العربية والإسلامية مجتمعة، أي إنه تفسير لحالة المزاج العام السائدة في الأمة في مرحلة معينة، والتي تكشف عن نفسها بصورة واضحة في بعض البلاد أكثر من غيرها.
مساران للحركة الإسلامية
بهذا نصل لخلاصة تفيدنا في فهم مسار الحركة الإسلامية، وهو النظر إليها من خلال مسارين، الأول المسار المجتمعي والثاني المسار السياسي، وسنلاحظ أن مسار الحركة الإسلامية المجتمعي ما زال في تصاعد مستمر، وهو لم يبلغ بعد ذروته، أي لم يبلغ مرحلة التحقق الكامل للمشروع الذي حملته الحركة الإسلامية، وهو استعادة المرجعية الإسلامية، والغالب على هذا المسار أن يتجه نحو الاستمرار والتصاعد، حتى تتشكل أغلبية مجتمعية متواصلة، تمثل حاضنا اجتماعيا واسعا للمشروع الإسلامي، مما يصل بهذا المشروع لمرحلة التمكين، التي تمهد لتحقق المرجعية الإسلامية في المجال العام والمجال السياسي، في البلاد العربية والإسلامية، تدريجيا.
وحتى الوصول إلى تلك المرحلة، سوف تشهد الحركة الإسلامية حالة تصاعد للحاضن الاجتماعي الدافع نحو تحقيق المرجعية الإسلامية، وحالة دفع للأوضاع القائمة، ومحاولة للتغلب على الوضع القائم بتصعيد البديل الإسلامي واقعيا، أي أن المسار الاجتماعي سيشهد تحققا واقعيا للمرجعية الإسلامية، حتى يتم التمكن من تحقيقها في المجال السياسي.
أما المسار الثاني: وهو المسار السياسي، فسوف يشهد عملية كر وفر، من قبل الحركة الإسلامية، أو من قبل الحاضن الاجتماعي المساند لها، وهي محاولات لاقتحام المجال السياسي المحصن بالاستبداد؛ بسبب غياب الديمقراطية، وهي في الوقت نفسه محاولة لتحقيق الديمقراطية من خلال اقتحام الانتخابات بنتائج غير متوقعة من قبل النظم الحاكمة، أو غير مرغوب فيها، وعملية الكر والفر سوف تستمر بهذه الوتيرة، تعبيرا عن تداول حالة الدفع والاسترخاء المجتمعي، وتعبيرا عن محاولة اختراق حصن الاستبداد بالهجوم عليه والبعد عنه، وسيظل هذا المسار على هذا الوضع، حتى يصل المسار الاجتماعي إلى ذروته المحققة للأغلبية الاجتماعية المتواصلة، وعندها يجتمع المساران معا، وتكون تلك هي اللحظة الفارقة؛ حيث تتجه الحركة الإسلامية مدعومة بحاضن اجتماعي واسع، من أجل إصلاح وتغيير الأوضاع السياسية.