بوفاة الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله فقدت الساحة الإسلامية عامة والمغاربية خاصة رجلا من خيرة رجالاتها، لم تكد الساحة الإسلامية في العالم ولا الساحة السياسية في الجزائر تعرف خلال السنوات العشر الماضية في الحد الأدنى مثل الأخ والصديق الفقيد محفوظ نحناح، شخصية اصطرع حول تقويم سياساتها ومواقفها كل المتابعين للشأن الجزائري الذي هو بدوره ظل على نحو أو آخر في صدارة أحداث العشرية المنصرمة، غير أنه مهما اختلف المرء مع فقيدنا فيما اجتهد واتخذ من مواقف كثيرًا ما صادمت الرأي العام الإسلامي والسياسي فلن يملك إلا أن:
1 - يعترف لهذا الرجل بسابقته في خدمة دعوة الإسلام على كل الجبهات منذ كان طالبًا في الآداب، فأستاذًا جامعيًّا لمادة التفسير، ودأبه على نشر مبادئ وقيم التجديد الإسلامي في الجزائر التي كانت يوم بدأ عمله قد استقلت حديثًا، وكان من شباب ثورتها الكبرى، وكانت الآمال وقتها معلقة على استقلالها أن يحقق لها نقلة عظيمة إلى حياة إسلامية واعية باعتبار ثوراتها المتلاحقة منذ الأمير عبد القادر الجزائري إلى ثورتها التحريرية الأخيرة التي كان الإسلام مادة وقودها، ولا سيما بعد العمل التأسيسي لجمعية العلماء.
غير أن صعود موجة العلمنة والاشتراكية والشيوعية في العالم خلال الستينيات والسبعينيات وما حظيت به ثورة الجزائر في مرحلتها الأخيرة من تأييد المعسكر الاشتراكي مقابل انحياز الحلف الأطلسي للمستعمر، جعل من الاستقلال نوعًا من النصر الاشتراكي والعلماني، ومنطلقًا لتطبيقات اشتراكية في المستوى الاقتصادي والسياسي وفرصة للنشاط اليساري الشيوعي، وذلك رغم انطلاقة موجة التعريب التي سيكون المد الإسلامي واحدًا من ثمارها، ويشكل أكبر تحدٍّ لتوجهها العلماني الذي عاد في النهاية يصب في حوض التغريب تواصلاً مع إرث الإدارة الفرنسية المنهزمة، ولكن في حالة كمون.
وكان الشيخ محفوظ والشيخ عباس مدني والشيخ عبد الله جاب الله والشيخ محمد بوجلخة والشيخ محمد السعيد، ثم علي بلحاج ومصطفى براهمي في مرحلة تالية.. من أبرز رموز الشباب المغربي الذين قاموا منذ نهاية الستينيات، وفي أعقاب حل أول جمعية إسلامية بعد الاستقلال "جمعية القيم"، نهضوا تحت رعاية عدد ممن تبقى من شيوخ جمعية العلماء مثل الشيخ عبد اللطيف سلطاني والشيخ سحنون والأستاذ مالك بن نبي يتصدون لانحراف الثورة عن إرثها الإسلامي وإيغالها في نهج العلمنة والاشتراكية والحكم الفردي، وما تطورت إليه من تغرب ولائكية (علمانية)، لا سيما في عهد الشاذلي.
لقد مثّل الشيخ محفوظ جسرًا مهمًّا جدًّا لنقل الأفكار الإصلاحية المشرقية والمناهج التربوية التي مثلها فكر الإخوان المسلمين عامة إلى الجزائر والمغرب العربي على نحو ما، سواء عبر التدريس وسط طلاب الجامعة، أم كان في عمق البلاد عبر شبكة المساجد، ولا سيما في منطقة الوسط التي ينتسب الشيخ إلى واحدة من أهم مناطق البليدة التي عرف أهلها بالنجاح في مجال الأعمال؛ فكان من أهم أركان بسط فكر الدعوة الإسلامية في هذا القطر الإسلامي المهم.
2 - ليس الشيخ محفوظ مجرد داعية نشط وواعظ حديث أمكن لخطابه المتميز بالعمق الديني، والهدوء، والواقعية، والمستوى الأدبي الرفيع، وروح الدعابة، وإنما كان إلى ذلك مربيًّا ومنظمًا مؤسسًا لجماعة إسلامية "حركة المجتمع الإسلامي" (حماس) التي تحولت لاحقًا إلى حركة مجتمع السلم (حمس) انسجامًا مع قانون الأحزاب، انغرزت هذه الحركة بقوة في المجتمع الجزائري، ولا سيما في الفئات الوسطى من الإداريين والإطار التعليمي والتجار والنساء والشباب.
ومرت بمرحلة السرية والتتلمذ على الفكر الإصلاحي المشرقي الذي قد يكون النقل الحرفي له في المرحلة الأولى قاد إلى تصادم الحركة في طور نشوئها في النصف الثاني من السبعينيات مع حكم بومدين، فاعتقل الشيخ وثلة من إخوانه وتعرض لصنوف من التعذيب، وأمضى بضع سنوات في غياهب السجون؛ حيث أمكن لي التخفي مع أسرته لزيارته بالمستشفى خلال تلك الفترة بمدينة "الأصنام" التي تعرضت خلال وجوده بسجنها إلى زلزال شديد ترك الشيخ فجأة في العراء وقد تساقط كل ما حوله، وفرّ من بقي على قيد الحياة، بينما ظل هو ساكنًا هادئًا في انتظار عودة السجن والسجانين.
لقد مرت حركته من مرحلة النسخ عن المشرق إلى مرحلة التفاعل الجريء مع البيئة الجزائرية، لا سيما وقد تعرضت الجزائر لزلزال سياسي ربما لا يزال يحكم مسيرتها حتى اليوم هو حدث 5 أكتوبر 1988 الذي دكت فيه انتفاضة شعبية عارمة الدولة دكًّا، فعمت البلاد فوضى عارمة، ومن هناك انطلقت مسيرتان إسلاميتان كبيرتان: مسيرة الشيخين عباس مدني وعلي بلحاج اللذين امتطيا الموج العارم ومضيا به يكسوانه شعارات الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، المسيرة التي حاول الشاذلي مجاراتها بإجراءات ديمقراطية على أمل احتوائها نهاية.
وحتى بعد فوز الجبهة الإسلامية في الانتخابات البلدية، ثم قرب فوزها في الانتخابات التشريعية ظل الشاذلي يواكب المسيرة ثقة في قدرته على احتوائها، بينما الجيش رفض تسليم مصيره ومصالحه إلى الشاذلي وعباس، فتحركت الدبابات أولا لسحق جمهور عباس المتحرك في الشوارع، ثم تحركت لسحق صناديق الاقتراع وإلغاء الانتخابات وطرد الشاذلي، والرهان على الجيش بدل حيل الشاذلي الديمقراطية لسحق الجبهة بأفق العودة بالجزائر إلى ما قبل زلزال 5 أكتوبر بالقوة، أما الشيخ محفوظ رحمه الله فكان متوجسًا من الإبحار مع الموج الهادر ربما بحكم مزاجه الهادئ وعقله المنظم وتجربته في الصدام، فمال إلى التهدئة، وحتى لما اضطر الشاذلي لفتح أبواب التعددية على مصراعيها وانطلقت الجبهة كالصاروخ لتنزع من جبهة التحرير حزب السلطة قيادة أهم البلديات؛ فقد ظل الشيخ محفوظ ملازمًا موقف الحذر على تمام اليقين أن هذا الانفتاح مجرد خدعة لاحتواء الموقف وكشف حقيقة قوة ومواقع نفوذ الإسلاميين لتصفيتهم.
غير أنه لم يملك وقد أخذ المسار يفرض نفسه من مسايرة الموجة ولكن بحذر؛ إذ عمل على القيام بنوع من التأمين على الدعوة؛ فاستحدث لها كيانًا مستقلا عن التنظيم السياسي هو جمعية الإصلاح والإرشاد، كما مدّ خيوط تواصله مع أصحاب السلطة الحقيقيين قادة الجيش لطمأنتهم على أن حركة مجتمع السلم تراهن على الإقناع بدل الإخضاع وطرائق السلم وليس المغالبة، وأنه شديد الحرص على بقاء الدولة في وجه التهديد المسلح من الجماعات الذي تتعرض له، وأن الجيش هو أهم ضمان لاستمرار الدولة والاجتماع الجزائري.
ولم يتزحزح الشيخ عن هذه القناعات خلال أشد عنفوان الجماعات المسلحة وتغلغلها في المدن والأرياف، وحتى في العاصمة، فضلا عن الجبال، كان خطابه داخل الجزائر وخارجها يقارع تلك الجماعات وما تقوم عليه من تصورات فكرية وسياسية، مبينًا تباينها مع ما يؤمن به من إسلام ومصلحة دعوته والوطن الجزائري، لم يرهبه ما تعرض له من حملات نقدية شديدة لنهجه ومن تهديدات لحياته، لا سيما وقد أمكن لهم أن يجهزوا على أقرب أعضائه وخليفته المنتظر الشيخ "بوسليماني" رحمه الله.
ولا أزال أذكر صلاة الجمعة في المسجد المركزي بلندن خلال عام 1995 مع الشيخ وما راعني -وقد تخلفت قليلا عن الشيخ لأسلم على بعض الأصدقاء- ونحن ندلف وسط جموع غفيرة من صحن المسجد إلى خارجه، إلا وجمع من الشباب يلتف حول الشيخ صارخًا في وجهه، ثم ما لبث أن وجه إليه أحدهم لكمة كادت تفضي إلى كارثة، لولا تدخل بعض العقلاء للحد من غلواء أولئك المتطرفين، ولقد عجبت لمدى تماسك الشيخ وهدوئه وسط الخطر الذي أحاط به، ولعله بعد ذلك فرض على نفسه وضع ترتيبات لتنقله.
إنسانية الدعوة والحركة
3 - الثابت أن الجماعة التي أسسها الشيخ على عينه وصورته قد ثبتت بعد ثلث قرن من التقلب مع الموج الجزائري العاتي رقمًا مهمًّا ومعطى ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا يمكن لك أن تتفق معه أو تختلف، لكن لا مناص من أن تقرأ له حسابًا؛ فقد وسع قاعدته في مستوى الشباب الطلابي وفي مستوى العمل النسائي، ووسط فئات واسعة من الفئة الوسطى ومختلف قطاعات الدولة بما قدم من تصور هادئ متسامح يعطي مكانًا واسعًا في الإسلام لكل ما هو إنساني وجميل، وحديث من ديمقراطية وحقوق إنسان، وذوق جميل ومال وتجارة وترفيه حلال، وروح دعابة إلى حس عميق تجاه المساكين والأرامل والعوانس (وأحسب أن أكثر زعيم إسلامي تكلم عن ظاهرة العنوسة وأحس بمعاناة أعداد هائلة من هؤلاء الفتيات هو الشيخ محفوظ).
كما حفل خطابه بخصوصية نادرة في حركات التغيير من الدفاع عن الدولة وضرورة المحافظة عليها والخشية من الانفلات والفوضى، والحقيقة أن هذا الخط مثّل خطابًا تليدًا في تراث علماء أهل السنة زهدت فيه الحركة الإسلامية المعاصرة التي سادها خطاب التثوير والتغيير؛ بسبب ما نالها من بأس الدولة الحديثة حتى كرهتها لدرجة تمني زوالها، ولربما هذا الخطاب الوسطي الجامع لئن أغضب من الشيخ فئات واسعة من الإسلاميين، ولا سيما في وسط الشباب والسياسيين الجزائريين؛ فقد أمده بقاعدة مستقرة واسعة مضمونة ربما حتى في وسط الجيش وقياداته، بما أفسح أمام الشيخ فرص الترشح إلى قمة الهرم السياسي؛ إذ ترشح في انتخابات 1995 لمنافسة الرئيس زروال، ورغم أنه لم يفز فإن كل المتابعين لحملته الانتخابية يشهدون بتفوق مستوى خطابه وشعبيته بما جعل النتائج المعلنة موضع استفهام.
وحاول مرة أخرى الترشح في مواجهة بوتفليقة إلا أنه أُقصي بطرق ملتوية، تشهد مرة أخرى على أن اللعبة ممسوكة من فوق مسكًا محكمًا، وأن هناك خطًّا أحمر لا ينبغي للإسلاميين تجاوزه، ومع ذلك صبر الشيخ وواصل الصمود في مواجهة التيار الاستئصالي المتصاعد، لا سيما بعد فشل الرهانات العنيفة وترجح كفة نهج المصابرة والتعقل الذي انتهجه الشيخ -مع ما يمكن أن يؤاخذ به من شطط في هذا الصدد- وأمكن لصموده أن يفسح المجال أمام ما هو متاح دون الرئاسة من مواقع في المجلس التشريعي ظلت محجوزة لحركة مجتمع السلم، ومواقع مهمة في المستوى النيابي والتنفيذي دربت كوادر مهمة لهذه الحركة نقلتها من مستوى الشعارات والعموميات إلى قلب العملية السياسية بما هو تفاعل بين المبادئ والواقع، وهي أقوم الطرق لتطوير فكرنا الإسلامي في مجالات الاقتصاد والثقافة والتنمية والعلاقات الدولية، وهو ما يعاني فيه فكرنا الإسلامي فقرًا شديدًا نتيجة نأيه منذ زمن عن ميادين التطبيق.
جدل.. لما بعد الرحيل
وإذا كان الموت قدر كل كائن حي فإنما تقاس حياة الرجال بما قدموا لأمتهم وللإنسانية وبما قدموا لربهم، ورغم أني طالما اختلفت خلال العشرية المنصرمة مع الشيخ رحمه الله؛ فقد ظلَّ إعجابي كبيرًا بثباته على ما يعتقد أنه حق ومصلحة، وبشجاعته في الصدع برأيه مهما بلغ تباينه مع الجمهور، وقد خبرته عن قرب خلال إقامتي بالجزائر مدة سنتين، ولمست عن قرب مدى امتدادات وتشعب علاقاته التي لم يضن بها عنا.
ولكن ومهما اختلف عنك ومهما اربدَّت الأجواء من حوله؛ فقد كانت الابتسامة العريضة لا تكاد تغادر محياه الجميل، ودعابته الحاضرة، واستحضاره الدائم للعواقب وموازين القوة، ومعية الرحمن الرحيم، تمامًا بنفس الحرص على أناقة المظهر من مثل تهذيب ذقنه، وإحكام رباط عنقه، وبذلته الحديثة العهد بالمكواة.
كل ذلك جعل من الشيخ طرازًا متميزًا في التنظيم الإسلامي تتفق معه أو تختلف، لكن لا يمكن لك إلا أن تقدر فيه الشجاعة، والثبات، والسماحة، والاعتدال، والمرونة السياسية لدرجة البراغماتية، والحس العميق بهموم الناس ومكانة الدولة في الجماعة، لا سيما الدولة الحديثة، والتعويل على الحوار والتفاوض والقبول نهاية بالممكن والمشاركة والامتناع مطلقًا عن ترك فرصة للخصوم للانفراد بالأمر العام. مثل هذه الشخصية ما أحسب أن ما أثارته في حياتها من جدل سينتهي بموت الجسد، ولكن سيتواصل ما تواصلت المشكلات التي طرحتها والحلول التي اقترحتها.
رحم الله الأخ الصديق الحبيب الشيخ محفوظ بقدر ما جدَّد وأشاع من قيم الإسلام العملية والتربوية والسياسية وحسن معاملة مما تحتاجه أمة وشعب ممزقان بالأحقاد ونزوعات التنافي، ورحمه الله بما حرَّك من سواكن العقول، وفجَّر من قضايا عملية للتفكير والتأمل، رحمه الله في الأولين والآخرين، وعوض الله شعب الجزائر وإخوانه في مجتمع السلم وأمة الإسلام خيرًا، وأفرغ على ذويه وأحبابه جميل الصبر، وجمعنا الله به في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.