ما زلت أذكر وأنا طالب في جامعة هواري بومدين بباب الزوار -إحدى ضواحي العاصمة الجزائر- يوم أقام الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله أول محاضرة عامة في بهو الجامعة عام 1989. كان الحضور غفيرًا.. كلهم من الشباب ومن طلاب الجامعة وغيرهم ممن قدموا لسماع المحاضرة.
لا أذكر الآن الموضوع الرئيسي للمحاضرة، غير أني أذكر موقفًا جرى بينه وبين أحد الشباب أثناء الإجابة على الأسئلة بطريقته "الفلاشية" المعروف بها (أي إجابات سريعة ومختصرة) حتى كناه بعضهم "أبو فلاش"، ووصفه آخرون بصاحب الإجابات "الفلاشية".
أذكر أنه قال للشباب الحاضرين: أنتم أبنائي، فرد عليه أحدهم وكان بعيدًا عن المنصة: أنت أبونا.. غير أن الشيخ رحمه الله لم يسمع كلام الشاب جيدًا، فظن أنه يرفض أبوّته، فقال فيما معناه: إذا لم تكونوا تريدون ذلك فلا بأس، فرفع الشاب صوته عاليًا وشاركه عدد من الحاضرين: "أنت أبوووناااا".. وحينها رد عليهم مازحًا: عندي عشرة من الأولاد ولا أظن أن "المدام" (أي زوجته) ستقبل بأكثر من ذلك.
أبوة.. وبنوة
أنتم أبنائي.. وأنت أبونا.. هذه خلاصة العلاقة الحميمية الصادقة التي كانت تجمع بين الشيخ محفوظ رحمه الله والشباب، ليس في الجزائر فحسب، وإنما أيضًا في بلدان كثيرة زارها الشيخ والتقى بشبابها، وهذا ما لمسته من خلال عدة لقاءات جمعتني ببعض الشباب من غير الجزائريين.
هذه العلاقة جعلت الشباب يقبلون على محاضرات الشيخ ودروسه وخطبه أينما كانت، بل إن فصول محاضراته في المعهد الوطني العالي لأصول الدين التابع لجامعة الجزائر كانت تغص بالشباب من غير طلاب الفصل، بل ومن غير طلاب الجامعة، ولا أذكر -وأنا حينها طالب في السنة الأولى بالمعهد بعدما انتقلت إليه من جامعة باب الزوار- أن محاضرة من محاضرات السيرة أو التفسير التي كان يلقيها على طلاب السنتين الأولى والثالثة على التوالي لم يحضرها هؤلاء الشباب.
وفي مقابل هذا الإقبال الشبابي المليء بالحب والتقدير كان هناك إقبال آخر من طرف الشيخ محفوظ رحمه الله بنفس الحب والتقدير -وربما أكثر- وبقدر كبير من العطف والحنان والرعاية، ممزوج بالأمل الكبير أن ينجح في غرس بذور الخير في نفوس الشباب، ويتمكن من ترشيد عقولهم وتوجيه طاقاتهم لما يخدم البلاد والعباد.
لم يألُ الشيخ المرحوم جهدًا في تعليم الشباب وتربيتهم ورعايتهم وحتى حل مشكلاتهم، وما اشتعل رأسه شيبًا إلا من هذه المشكلات، وما أكثرها، غير أنه لا يرد من يأتيه راجيًا حل مشكلة أو مستفتيًا في مسألة استعصى عليه جوابها، حتى إنه رحمه الله لم يكن يَسْلَم بعدما يلقي محاضرته ويجيب على أسئلة الحاضرين من أن يحيط به الكثيرون، كل يطرح عليه مسألته، وهو يجيب هذا ويرد على ذاك، ويقول لثالث: راجعني يوم كذا بعد محاضرة كذا في مكان كذا.
ولم يكن -رحمه الله- يرد دعوة لإلقاء محاضرة أو خطبة جمعة أو كلمة في افتتاح معرض أو تأسيس جمعية، وما زلت أذكر وأنا طالب في المعهد العالي لأصول الدين يوم أسسنا ناديًا علميًّا سميناه "النادي العلمي للشيخ الفضيل الورتيلاني" وهو أحد كبار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسسها الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله.
وفي حفل الافتتاح دعونا نخبة من الأساتذة والدعاة، وكان من بينهم الشيخ محفوظ والشهيد الذبيح الشيخ محمد بوسليماني رحمهما الله، غير أن الشيخ محفوظ تأخر بعض الشيء وعلمنا أنه في المستشفى للعلاج، فقلنا: إذن لن يأتي، لكنه حضر، وعند استقبالنا له عند بوابة الجامعة سلم علينا، ثم اعتذر عن عدم المشاركة في الحفل بسبب تعبه الشديد، وأطلعنا على ما كان يحمله في يده، إنه كيس "السيروم" (سائل الجلوكوز الذي يحقن في الوريد)، وكان المفروض أن يبقى في المستشفى إلا أنه أصر على الحضور والاعتذار شخصيًّا.
وللمرأة نصيبها
هذه العلاقة المتبادلة لم تكن محصورة بين الشيخ والذكور من الشباب، وإنما كانت تشمل الإناث أيضًا؛ فلم يكن يدع فرصة لمشاركتهن في محاضرة أو معرض عن المرأة المسلمة إلا اغتنمها ليعلمهن ويصحح مفاهيمهن عن الإسلام.
ومن ذلك أنه مرة ألقى محاضرة خاصة بالنساء، وفي نهايتها قدمت المشرفة على اللقاء طفلاً صغيرًا ليلقي نشيدًا، وعندما انتهى ناداه الشيخ رحمه الله وسأله عن اسمه فأجابه، ثم عن اسم والده فأجابه، ثم عن اسم أمه فاندهش الطفل من السؤال كما اندهشت الحاضرات! كيف يسأل الشيخ عن اسم أمه وهذا من "الحُرمة" كما يسمى في الجزائر؟! أي أن هذا يدخل في إطار المحرمات الاجتماعية؛ إذ يعتبر من العيب أن يذكر الرجل اسم أمه أو أخته أو زوجته أو حتى ابنته.
فاغتنم الشيخ هذه الفرصة، وقال لهن: ألا نعرف اسم أم النبي صلى الله عليه وسلم؟ ألا نعرف أسماء زوجاته وبناته؟ بما يعني أن هذه عادة اجتماعية لا غير، ومخالفتها ليست حرامًا كما يظن البعض، وإن كان الاستمساك بها لا يضير في غالب الأحيان، بل وينبع من صميم الخلق الإسلامي، لكن في نفس الوقت يجب أن نضع كل شيء في مكانه، فلا نخلط الشرع بغيره.
حب فلسطين
ومما تعلمه الشباب من الشيخ محفوظ حب فلسطين، والاهتمام بقضية القدس التي يعتبرها عمق الجرح العربي والإسلامي، واشتهر على لسانه وصفه إياها بفلسطين الشاهدة على الناس، حتى لا تكاد تخلو منه خطبة من خطبه.
وأذكر أن أحد الشباب الفلسطينيين قال لي يومًا بأنه لم يسمع أحدًا من الدعاة غير الفلسطينيين أو دعاة بلاد الشام يتكلم عن فلسطين كما يتكلم عنها الشيخ محفوظ، وأيضًا بتلك الحرقة والاهتمام الكبيرين.
ولعل هذا الغرس قد آتى أُكُله حين أعلن القسم النسائي في حركة المجتمع الإسلامي "حماس" (قبل تغيير اسمها إلى حركة مجتمع السلم حمس) عند تأسيس الحركة -فيما أذكر- أن الأخوات تبرعن بالكثير من حليهن لإخوانهن في فلسطين.
ورغم ما مرت به الجزائر من عشرية "سوداء" كما وصفها البعض؛ فإن فلسطين وقضيتها بقيت في أعماق الشيخ رحمه الله، حتى إنه في آخر وصية له قبل وفاته أوصى بالوقوف إلى جانب "إخواننا في فلسطين".
الدعاء.. ولزوم الجماعة
ومع هذا الإقبال الشديد من الشباب عليه في ظل ضعف القدرة الاستيعابية بسبب قلة الكوادر التربوية المؤهلة.. ضاعف الشيخ محفوظ من جهده وعطائه.
ودروس السيرة للشيخ رحمه الله تجعلك تعيش أحداثها؛ فهو يجعل من وقائع السيرة منارات يضيء بها الواقع الذي نعيشه ويستنبط من أحداثها معالم السير بالدعوة والتغلب على المشكلات والعراقيل.
وما زلت أذكر عندما التقى الشيخ رحمه الله بالرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، وخاطبه بلفظة "فخامة الرئيس"، فثار المرجفون وأدعياء العلم الشرعي هنا وهناك: لا يجوز.. هذه مداهنة.. كيف يعظم الرئيس وهو لا يحكم بالشريعة؟! لكن الشيخ لم يعبأ بهم، وعندما سئل عن ذلك أجاب بلسان العالم الواثق: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب كسرى وقيصر والمقوقس في رسائله إليهم، فقال: إلى كسرى عظيم الفرس، وإلى قيصر عظيم الروم، وإلى المقوقس عظيم القبط، فانتبه الناس إلى ذلك وهدأت عاصفة المرجفين.
وقد صارحنا مرة ونحن نستمع إلى محاضرته في السيرة النبوية بمعهد أصول الدين حين سئل: كيف العمل والمربون قلة والمقبلون على الصحوة الإسلامية يزداد عددهم يومًا بعد يوم؟ فقال: ماذا تريدون أن أقول لكم؟ هذا حالنا.. "الله غالب" (وهذه عبارة تقال لإبداء العجز بعد بذل جميع الأسباب)، ثم أضاف: لكني أوصيكم باثنتين: ادعوا الله عز وجل، والزموا الجماعة.
ولعل هاتين الوصيتين بعد وفاة الشيخ محفوظ رحمه الله هما أهم ما يحتاج إليه اليوم شباب حركة مجتمع السلم وجمعية الإرشاد والإصلاح، بل وكل محبيه في الجزائر الحبيبة -كما يحب كثيرًا أن يصفها- وفي خارج الجزائر.. فهل نحن فاعلون؟