ابتدأ مسار المشاركة السياسية للتيار الإسلامي في السلطة بانتخابات حزيران/ يونيو 1990، وهو الاستحقاق الذي وضع "جبهة الإنقاذ" على المحك من خلال فوزها في الانتخابات المحلية المذكورة بأغلب البلديات. ولئن شهدت تلك الممارسة نقاطًا مضيئة تحسب لصالح "الإنقاذ"؛ فإن العملية ظلت مرهونة بحسابات الجبهة الإسلامية التي كانت تزحف قدما نحو مواقع أكثر أهمية.
وأدت حداثة تلك التجربة -منظورا إليها من حيث مستوى الأداء وفي سياقها الزمني أيضا- إلى تدافع بين تيارات الإنقاذ الإصلاحية والمحافظة، أفضى إلى حرق أشواط.. نتج عن غياب رؤية موضوعية للواقع من جهة، وانعدام الأخذ بمراتب التغيير ضمن إطار فقه الأولويات والموازنات من جهة أخرى. فآل بذلك مسار الإنقاذ الصدامي إلى منازلة ساخنة، ابتدأت بالإضراب السياسي، فالعصيان المدني الذي أعقبته المواجهات الدامية التي شهدتها ساحات العاصمة الجزائرية.
لكن بصيصا من الأمل كان ولا يزال يراود الإنقاذيين، فيما كانت الجهات النافذة في السلطة تضمر حقدا مبيتا لتلك القيادات. وجاءت انتخابات 1991 لتحرز "الإنقاذ" فوزها الكاسح بـ188 مقعدا من أصل 398 مقعدا (العدد الإجمالي للمقاعد)، غير أن انقلاب 1992 خيب آمال الإنقاذيين في إحداث التغيير، ودفع بالعسكر إلى قلب الطاولة على الرئيس بن جديد والإنقاذ معا، فيما تعززت قناعات العناصر الجهادية التي ظلت تتحفز للانفلات من قبضة بعض القيادات المؤطرة للحزب.
وأريد لذلك المسار أن يشهد -من ثم- تحولات حاسمة، غذتها التنازعات الفكرية، التي حكمت كيان الجبهة، بوصفها إطارا جامعا لتيارات فكرية إسلامية متعددة متفاوتة في الرؤية، متوحدة في لافتة العمل السياسي، غطت على تبايناتها السياسية القيادة التاريخية، كمرجعية يعود لها فضل المحافظة على تماسك لحمة الإنقاذ خلال فترة ما قبل الاعتقال.
المرحلة الانتقالية.. لعب في الوقت بدل الضائع
وسط أجواء من الانفلات الأمني، بدا تقدير بعض القيادات الحركية -لخطورة الوضع الهش الذي تمر بها مؤسسات الدولة- يستوجب من باب المصلحة الدفع بصانع القرار إلى العودة التدريجية للشرعية في أقرب وقت ممكن؛ ولا بأس من مجاراته بعض الشيء ريثما يثوب إلى قواعد اللعبة التي نسفها فيما سبق.
وبعيدا عن أي حكم معياري -يرمي إلى تقييم مشاركة الإسلاميين في تلك المرحلة- فإنه يستوجب استكشاف مسافات المشاركة التي خلقتها ظروف غير صحية، ناتجة عن أعمال العنف والعنف المضاد وما شابهها من تحامل كبير على الإسلاميين على اختلاف مواقعهم.
وعلى هذا النحو، بدا أن وضع البيض كله في سلة واحدة يقضي على بيضة التيار الإسلامي ويعود به عودة القهقرى لعدة عقود.
وعلى الرغم من حالة الحذر التي طبعت العلاقة بين السلطة القائمة والتيار الإسلامي على اختلاف فصائله، فقد كانت تقديرات تيار المشاركة ترمي إلى الحفاظ على المكاسب المحققة بعد أحداث أكتوبر 1988 التي حملت أجواء الديمقراطية، وخلَّصت البلاد من سطوة الحزب الواحد الذي استأثر بالساحة السياسية لأكثر من ربع قرن من الزمان؛ وأي تقدير خاطئ من شأنه أن ينسف جهود سنوات.. بل عقودا من الدعوة؛ وعلى هذا النحو توزع التيار الحركي بين موقفين اثنين:
موقف رافض ومتخوف من أي تقارب مع النظام
موقف رأى في المشاركة صمام أمان للحفاظ على الكيان السياسي وما زال لديه أمل في العودة إلى تطبيع الحياة السياسية
وتلخصت الأهداف التي رسمها تيار المشاركة في تلك الفترة العصيبة فيما يلي:
كسر حاجز الخوف لدى الإسلاميين ومنهم
الحول دون إقصاء التيار الإسلامي من ساحة العمل السياسي
قطع الطريق أمام العلمانيين لاجتثاث بعض القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية كقانون الأسرة (الأحوال الشخصية)
إثبات قدرة التيار الإسلامي على الحوار والتعايش
إبراز صورة التسامح والاعتدال والوسطية مقابل تحامل كبير يسنده واقع محتدم
الدفع بالسلطة إلى العودة إلى الشرعية
غير أن تلك المشاركة -التي حكمت الفترة الانتقالية فضلا عن كونها عارية عن كل شرعية- كرست التسيير الرديء للوضع المترهل، وأفقرت الساحة السياسية التي عاشت قبل هذه الفترة العصر الذهبي للديمقراطية. ولئن استطاعت أن تبقي الصوت الإسلامي موجودا داخل أروقة السلطة، فإن إسهامها لم يتعد كسر حالة التوجس لدى الآخر.
مجتمع السلم "المستأنس"
جاءت انتخابات 1995 الرئاسية في محاولة من السلطة لاجتياز حالة المراوحة، وتخطي عقدة الانقلاب. لكن.. الأجواء الخانقة -التي فرضتها الظروف الأمنية المتدهورة- كانت تلقي بظلالها على أي تحرك للتيار الإسلامي، بعد أن طالت الملاحقات مناضلين كثيرين من الإنقاذ ومن غير الإنقاذ. واستغلال أجواء الحملة الانتخابية يعني إعادة الانتشار في قطاعات لم يصلها الخطاب الإسلامي التجديدي، الممثل في الأحزاب الأكثر ميلا إلى الوسطية والاعتدال.
مثل المرشح الإسلامي -وقتها- نموذج رجل الدولة المؤمن بالحوار والتعايش مع الآخر، حسب تقييم البعض؛ وكانت الحملة الانتخابية تجربة لافتة ومحرجة لبعض الجيران أيضا، حيث يحتفظ المرشح الأوحد دوما بالنسبة الخيالية المعروفة. وكانت المشاركة وقتها تشجع على المضي في رفد المسار الديمقراطي من خلال تكريس التعدد في التسابق نحو كرسي الرئاسة، غير أن العملية الانتخابية تلك -على الرغم مما حملته من هامش تأثير كبير- استحالت إلى سطو مفضوح على الإرادة الشعبية، من خلال تزوير بالجملة لصالح مرشح العسكر الرئيس زروال.
وبصرف النظر عن الملابسات -التي رافقت هذه الانتخابات- فإن الصوت الإسلامي قد عاد هذه المرة "ليتموضع" بشكل أكثر نضجا من ذي قبل. ويبرر أنصار "حركة مجتمع السلم"، المشاركة في الانتخابات الرئاسية تلك، بما يوصف في أبجديات هذا الحزب بسياسة المرحلية والتدرج التي تقتضي إشاعة نوع من التسليم بالأمر الواقع على ما فيه من حيف، مقابل مكاسب لاحقة توسع من دائرة المد الإسلامي انتشارا على أكثر من مستوى. عكس ذلك قناعات لدى أطراف في السلطة، كانت ترى في مشاركة الإسلاميين المعتدلين درءا لشبهة معاداة الإسلام، واستئصال شأفة الإسلاميين.
والملاحظ أنه في تلك الفترة، كان النظام بحاجة إلى رفد مسار الشرعية "المثلومة" في مقابل إقصاء لفصيل إسلامي معتبر من الساحة. وأمام استحالة عودة الإنقاذ، كانت حركة المجتمع الإسلامي وقتئذ -قبل أن تتحول إلى "حركة مجتمع السلم" (إخوان مسلمون)- التنظيم الحزبي المؤهل للعب الأدوار المقبلة على الساحة السياسية، انطلاقا من كونه يراقب أكبر تنظيم طلابي، ويشرف على جمعية خيرية يعضدها آلاف المنخرطين.
لذلك ابتدأت المشاركة فيما بعد رئاسيات 1995 في حكومة أحمد أويحيى بحقيبتين وزاريتين لا غير، لا تعكسان بحال من الأحوال حجم الحركة ولا وزنها السياسي؛ غير أن انتخابات 1997 البرلمانية -التي لم تنج هي الأخرى من أعمال التزوير- أفرزت قوة إسلامية لا يستهان بها تحت قبة البرلمان. فحصلت "حركة مجتمع السلم" على 69 مقعداً، محتلة المركز الثاني قبل جبهة التحرير الوطني، فيما حصلت حركة النهضة هي الأخرى على 34 مقعداً من جملة 389 مقعداً، على الرغم من هيمنة الإدارة وانحيازها السافر لحزب جديد.
تعززت مرتبة حركة حمس من خلال الاستمرار في التعاطي مع سياسة المشاركة، عبر ائتلاف حكومي (يحلو للبعض تسميته بالاعتلاف)، بعد مفاوضات شاقة، حصلت بموجبها على 7 حقائب وزارية لا تمثل أي منها حقيبة ذات سيادة. مع هذا، فإن وجود أتباع محفوظ نحناح للمرة الثانية داخل التشكيل الحكومي الجديد، أعطى الحركة هامشا كبيرا داخل أروقة البرلمان من خلال احتفاظها بنيابة رئيس البرلمان ورئاسة بعض لجانه. وكانت تجربة المشاركة في الحكومة الأولى لجس النبض، مثلما كانت كافية للوصول إلى إشاعة نوع من التعايش بين أطياف التيار الوطني المتشرذم وقتئذ، يعكسه تنافر بين جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي (حزب الأغلبية)، استفادت منه حمس أو استفاد غيرها في وجود بدائل لكلا الطرفين في إمكانية الاستغناء عن الآخر. فكان الحزب الإسلامي المشارك عنصر ترجيح قبل أن يسعى ليصبح رقما في المعادلة، من خلال تقارب واندراج طوعي، يقدم نفسه كبديل للتموقع داخل دائرة النظام المغلقة والمحسوبة جيدا، كجزء من خطة تهدف إلى تجاوز قناعات سابقة، قوامها التوجس والابتعاد عن سرايا الحكم والانكفاء على الذات.
لكن محاذير كثيرة كانت تصاحب ذلك المنحنى، سواء على مستوى السلطة أو على مستوى القواعد التي لم تهضم بعض قرارات الحزب، الناتجة عن تنازلات جمة قدمها الحزب، في مقابل مكاسب هزيلة لا ترقى إلى مستوى تطلعات المناضلين. فالحقائب الوزارية توزعت على نحو غير متوقع ولا يرضي القاعدة. وبغض النظر عن المبررات الشرعية، فإن أكثر من علامة استفهام كانت تخالج أنصار التيار الإسلامي حول الجدوى من تسلم وزارة كالسياحة.
كانت الحقائب الوزارية التي حصلت عليها حركة حمس غير ذات أهمية، بل إن الكثير منها يشكل حقلا ملغما ناتجا عن تسيير رديء في الفترات السابقة. وتمثلت حصة حركة حمس في الحقائب التالية:
وزارة الصناعة
وزارة الصناعات الصغيرة والمتوسطة
وزارة السياحة والصناعات التقليدية
وزارة النقل
كتابة دولة للبيئة
كتابة دولة للصيد البحري
كتابة دولة للصناعات التقليدية
فيما تسلمت فيما يلي ذلك كلا من وزارة العمل والحماية الاجتماعية ووزارة الأشغال العمومية
لم تختلف مشاركة حركة النهضة عن مشاركة حمس في عمومها، غير أنها عجلت في النهضة بانفصال الشيخ عبد الله جاب الله وتأسيسه لحركة الإصلاح، بعد خلافات انتهت به رئيسا منزوع الصلاحيات، وحالت دون الموافقة على ترشحه في رئاسيات 1999 قبل أن يختار صفة المرشح الحر.
استحالت المشاركة السياسية إلى علاقات سكونية، مرجعها الحصة لا شكل القرار السياسي. فألغت المشاركة بهذا النحو السياسة، فيما حلت هي كفعل إجرائي يناقض الأفكار، غير أنه يلتمس لها مسوغات تبقي على لحمة النضال الإستاتيكي الثابت، الذي يكرس الفعل ويعيد إنتاجه في أن واحد.
على نحو ما، تتوزع الحصص الصغيرة ضمن إطار (الكوتا)، لتتحول -من ثم المشاركة- من خيار دفع الشبهة الفكرية إلى الوقوع في المحظور السياسي، الذي يرهن الحزب ويطوعه في آن لمصلحة الكتلة الفاعلة في غياب المؤسسة. وتتحول العلاقة مع السلطة من حالة المواربة إلى عامل ترجيح للعناصر القابلة للاندراج الطوعي في ركابها، على حساب عناصر أخرى داخل المؤسسة الحزبية. يقابل ذلك "محاصصة"، قضت ببروز قيادات متوسطة على حساب ارتقاء دعوي ورصيد نضالي ومؤسسة تتوفر على أطر تنظيمية مرسومة.
وتتحول طبيعة النضال السياسي في مفردات الحزب المشارك من دائرة المشاركة المشروطة إلى أفق الطموح الشخصي، الذي يتوسل بلغة التجديد، غير أنه يفتقر إلى مسوغ واقعي يستر ولا يكشف.. فهل يمكن الحكم على فشل التجربة؟
بين التغيير والمحاصصة
لا يمكن الحكم بأي حال من الأحوال على إخفاق كلي لخيار المشاركة، غير أن واقع الحال ينبئ بتفاوت في التقدير وتباين في الحكم. ففيما يرى البعض أن للخيار مزاياه المعتبرة -التي أدت إلى صياغة مقاربة موضوعية للواقع بعيدا عن التنظير والأحكام الجاهزة- يرى البعض الآخر أن المشاركة أفقدت الحزب مصداقيته، وذهبت بقواه الجماهيرية، ولم تذهب به بعيدا إلى دائرة الهدف، بدليل قول الشيخ نحناح في تصريح له ذات مرة "نشارك في الحكومة ولا نشارك في الحكم".
ويحيل القول السابق إلى قراءة ما تجعل الحزب يتنصل من تبعات المسئولية، إلا أنه مع هذا لا يريد ألا يبرأ من خيار المشاركة. فالفريق الأول تمثله كوادر مخضرمة، ما زال يساورها الشك في أي علاقة غير محسوبة مسبقا مع السلطة، فيما يمثل الفريق الثاني عناصر جديدة نشأت في أحضان النضال الطلابي، ودفعت بها الظروف إلى مواقع قيادية، شكلت المشاركة بالنسبة لها هاجسا يتوخى التغيير، لكنه يلتمس له مسوغات التجديد، ويبرر الاستمرار في ربط العلاقة مع السلطة على نحو يفرغ المشاركة من محتواها فيما يبقي على سلبياتها.
يتعزز القول بجدوى المشاركة من عدمها، من خلال تجربة إدارة وزارة العمل والحماية الاجتماعية التي انفلتت من حسابات السلطة، رغم أنها قدرت خطورة المهمة لإثبات عدم كفاءة الطرف الإسلامي في وزارة تعتبر بمثابة حقل مليء بالألغام. وتمثلت تجربة وزارة العمل في صراع خاضه الوزير الإسلامي "أبو جرة سلطاني" بحدة في مواجهة عصابات الوزارة من فلول العناصر الشيوعية المتنفذة منذ عقود في أجهزتها، استولت مع مرور الزمن على مجالس الصناديق، وأحكمت قبضتها على قطاع يتوفر على رصيد مادي معتبر، غير أن التغيير الفعلي لتلك المجالس وتنقية الأجواء من العناصر الطفيلية الكامنة التي تعمل على الاقتيات السلبي من الوزارة، اصطدم بذهنية قديمة أبقت الحال على ما هو عليه؛ لكنها عجلت بذهاب الوزير أمام إلحاح من التيار العلماني وسط دعاوى اعتماد ودعم نقابات ذات ميول إسلامية، وتجمعات مناوئة للوزير، افتعلتها أطراف قادت جموع المكفوفين المحتجين إلى أبواب الوزارة.
لقد أسهمت المشاركة السياسية في الجهاز التنفيذي الحكومي في تراجع كبير للتيار الإسلامي، وأدت إلى بروز أكثر من تيار، خصوصا لدى حركة كمجتمع السلم بعيد وفاة الشيخ نحناح. وفيما عملت السلطة على إفساح مجال المشاركة، وضعت في الوقت نفسه خطا أحمر لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال، لتغدو المشاركة فعلا صوريا يحفظ للسلطة ماء وجهها، فيما يصادر شعبية الأحزاب الإسلامية المشاركة في تطبيق برنامج لم تساهم في صياغته. وقبيل انعقاد مؤتمر "حركة مجتمع السلم" -بعد إعلان حالة شغور منصب رئيس الحركة بعد وفاة الشيخ نحناح- هل يغير التيار المخضرم في (حمس) إستراتيجية المرحلة السابقة بالمشاركة المشروطة على الأقل، وذلك أضعف الإيمان؟ وسط أجواء موسومة بمراقبة غير بريئة، ورسائل مشفرة، ورغبة أكيدة من سلطة ما تزال بحاجة إلى تبييض؟
--------------------------------------------------------------------------------