لا شك أن التجدد والتجديد هي سمة كل شيء خلقه الله في الوجود، من خلاياه الحية إلى مجراته السائرة، مرورا بمجتمعاته البشرية التي يتغير عليها الزمان والمكان فتتبدل الأحوال، ومن ثم فلابد للفكر الإنساني والإسلامي منه على وجه الخصوص أن يجدد ويتجدد، وقد كانت الحركات الإسلامية ومنشئوها طليعة ذلك الفعل التجديدي، وإلا فلو كانوا مقلدين لما أحدثوا تلك الحركات رفضا للواقع والأفكار السائدة في زمانهم، ولن نجاوز الحقيقة إذا قلنا أن مستقبل الحركات الإسلامية الوسطية في العالم العربي والإسلامي يتوقف اليوم على التجدد والتجديد الذي يحدثونه في أفكارهم ومفاهيمهم ونظمهم بما يتناسب مع تغير الزمان وتبدل الأحوال، وفي هذا المقال نحاول أن نستعرض بعضا من المفاهيم التي نراها أساسية وضرورية لذلك التجدد والتجديد.
الحركات الإسلامية بين الغاية والوسيلة
أول تلك المفاهيم الأساسية ضرورة تفريقهم بين الغاية والوسيلة، فوجود تلك الحركات في حد ذاته وسيلة لإحداث التغيير أو وصولا إلى الغاية المنشودة وهي استعادة الدين وقيمه الحية النابضة في وجدان أبناء الأمة الإسلامية، واستنهاض وعي وجهود هؤلاء الأبناء لمقاومة مشاريع الهيمنة والاستكبار العالمي، وبناء نهضة الأمة وصولا بها إلى استعادة مكانتها وقياما برسالتها الرحمانية بين العالمين. ومن ثم فإن عليهم أن يدركوا أن التنظيم إنما هو وسيلة، وأنه ليس غاية في حد ذاته إلا بمقدار الضرورة التي دفعت إلى إيجاده، وأن عليهم أن يغيروا النظرة التي تقترب به من درجة التقديس، وعليهم بدلا من ذلك أن ينظروا إليه باعتباره مدرسة قد يتخرج أو يخرج منها البعض حاملا لرسالتها بل قد يتشكل البعض الآخر خارجا عنها أو بجوارها متأثرا بها باعتبارها المدرسي أو التياري، وأن ينظروا إلى أنفسهم على أنهم امتداد لنهر واسع يمثله التيار الوسطي الإصلاحي التنويري النهضوي والتحريري في الأمة والذي لا يقتصر عليهم بلا شك، ويجب ألا يقتصر عليهم، وأن عليهم في المقابل أن يسعدوا بوجود ذلك التيار الذي يتجاوزهم وأن يشجعوا عليه طالما كان يسير في اتجاه الغاية التي ينشدونها، طالما تجردت نياتهم لتلك الغاية.
الأفراد بين القولبة واستثمار التمايزات
ثاني تلك المفاهيم الأساسية ضرورة التحرر داخليا من الحرص على قولبة أفرادهم أو صبهم في قوالب واحدة وجامدة، وعليهم في المقابل أن يدركوا أن البشر إنما يتمايزون في مواهبهم وأن شخصياتهم إنما تشبه بصمات الأصابع في اختلافها، وعليهم أن يفهموا تلك الشخصيات وأن يستثمروا تلك التمايزات والاختلافات في المواهب والسمات، فكل إنسان بلا شك مهما اقترب من غيره في سماته وخصائصه يظل جرما وحده..، يدور أولا حول ذاته..بينما هو جزء من مجموعة شمسية..أسرة نووية، ثم مجرة..أسرة ممتدة، فمجرة أكبر..مجتمع أوسع، فمجرة أوسع..قوم..وهكذا، ما أشبه الأجرام والأفلاك البشرية بالأجرام والأفلاك الكونية في دوران كل جرم حول ذاته..في فلك من أفكاره وهمومه ومشاغله واهتماماته، وكل مجموعة وكل مجرة حول نفسها، الكل يدور في تلك المدارات..وفي مسارات تطول أو تقصر بين نقطة بداية..صرخة الميلاد، ونقطة النهاية..شهقة الموت. ومن ثم فإن علينا أن نساعد الأفراد على تنسيق وتنظيم مدارات العمل والاهتمام لديهم بين دوائرهم الفردية، والأسرية، والمجتمعية، والقومية، ثم دائرة الأمة، حتى لا تتصادم تلك المدارات، بل حتى تكون حياة الإنسان في مداره ومساره تصب في تحقيق الغاية والهدف المنشود لمجموع الأمة ولغيرها من دوائر الاهتمام والعمل، وعلينا أن نساعدهم حتى يتخلصوا من قصر النظر أو سمات الأنانية والفردية التي تعيق التنسيق بين تلك المدارات.
مستويات العمل وتنظيم الشمولية
ثالث تلك المفاهيم هو ضرورة التفرقة بين الأحلام والطموحات والرؤى التي تنظر لأفق الأمة البعيد، وبين العمل الذي يقتضي الالتفات إلى المصالح الأصغر على المستوى القطري، والمستوى المحلي في القرية والمدينة، والتفرقة بين متطلبات كل مستوى من مستويات العمل تلك، وهو ما يقتضي العمل بأسلوب لا مركزي في تحليل المشكلات والتخطيط لحلها.
أما رابع تلك المفاهيم فهو مفهوم الشمولية، فبعض أبناء تلك الحركات يفهم الشمولية على أنها شمولية التنظيم لكل مجال من مجالات العمل الواجب، وهو ما صار مع الزمن أمرا غاية في الصعوبة، فقد انحصرت الشمولية في المستوى العملي ومع التضييق الأمني على العمل في المجالين السياسي والدعوي - بمفهومه التجنيدي- وليس حتى بمفهوم الدعوة العامة الأوسع، ومن ثم فإن مفهوم الشمولية يقتضي المراجعة على المستوى العملي، إذ قد يتطلب الأمر تقسيم العمل ولا يستلزم من ثم وحدة التنظيم، والتي يضر فيها العمل السياسي بسائر مجالات العمل، خاصة التنموي منها، والذي يتطلب هدوءا وابعتادا عن صخب المعارك السياسية.
أدوار غائبة أو غائمة
ويقتضي مستقبل الحركات الإسلامية كذلك مراجعة بعض الأدوار الغائبة أو الغائمة في ساحة الفعل، ومنها:
التربية الروحية في زمن العولمة: ففي زمن العولمة الذي نعيشه باتت أخلاقيات الناس مهددة ليس فقط بالمهددات التقليدية للأخلاق، بل بمهددات تأتي مما أسماه بعض المفكرين بديانة السوق التي باتت تغزو كل بقعة من بقاع الأرض، وباتت حتى تغزو بيوتنا من خلال حمى الإعلان عن السلع الاستهلاكية، والتي يتبعها حمى الشراء الترفي، في وقت يعيش الملايين حالة من البطالة والفقر والجوع. وفي وقت تكلست فيه مناهج وأساليب ومقولات التربية الروحية عند أساليب ومناهج ومقولات قديمة. وفي وقت يعيش الناس فيه حالة من الجوع الروحي أدركوا ذلك أم لم يدركوا. فلو تأملنا سير المصلحين والمجددين جميعا من مؤسسي تلك الحركات وجدنا أنهم قد مروا في مرحلة التكوين في حياتهم بمرحلة مكثفة من التربية الروحية أعطت لهم صلابة في مواجهة الحوادث، وقدرة على تحمل أعباء الدعوة.
التنمية والبعث الحضاري: فمع انشغال الكثير من الحركات الإسلامية بالصخب السياسي، وانشغال الأنظمة الحاكمة بالحفاظ على الكراسي، انعدم في الأمة أو كاد من يسعى للقيام بعبء التنمية المستقلة والبعث الحضاري، والذي لن تقوم للأمة قائمة بدونه، وغاب هذا المطلب عن أدبيات الحركات وأفعالها.
تبني إستراتيجية للتحرير: في ظل السياسات العالمية لقوى الهيمنة والاستكبار العالمي، ينبغي على الحركات الإسلامية أن أمتنا لم تتحرر بعد، وأن ما مررنا به من ثورات وحركات تحرير أوقعتنا في وهم كبير عنوانه "الاستقلال"، وأن الأمة ما زالت في حاجة إلى تحرير للإرادة واستقلال حقيقي يمنع تلك القوى من التحكم في مصائر بلداننا وشعوبنا، ووضع أياديها على موارد الأمة.
تأسيس حلف فضول معاصر: ومطلب التحرير هذا يقتضي منا تأسيس ما يمكن أن نسميه "حلف فضول معاصر" يتحالف فيه كل المستضعفين في العالم ضد قوى الظلم والاستكبار العالمي، وتقدم فيه الأمة الإسلامية رؤاها التي تتطلع لها شعوب العالم لخلق عولمة إنسانية جديدة تسود فيها العدالة والرحمة وينعم الناس فيها بالسلام.
بعث المبادرات الأهلية من رقادها: حيث تستنهض قوى الأمة على المستويات المحلية والقطرية والأممية للقيام بواجبات درء المفاسد وجلب المصالح للأمة وللإنسانية، باعتبار أن تلك المبادرات التي تعبر عن مجموع مصالح مكونات الأمة وتطلعاتها إلى غد أفضل.
بناء فكري جديد: ويقتضي كل ما سبق أن تعيد تلك الحركات النظر في مناهجها الفكرية، وأن تسهم في خلق تيار فكري جديد يصب في النهر الأكبر لتيار الإصلاح والتجديد والنهضة والتحرير الذي سلك فيه كل من يحمل الخير في قلبه لتلك الأمة والرحمة للإنسانية جمعاء وبغير هذا البناء الفكري سنظل نراوح أماكننا، وتظل الأمة والإنسانية تئن من جور الفاسدين والمفسدين والمستبدين.
--------------------------------------------------------------------------------