لما التقيت الإمامَ "زهير رزق الله"، أحد رموز التيار السلفي في فرنسا، لم يكن ما يسمى بتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي قد أصدر بيانه الذي هدد فيه المصالح الفرنسية بعد بسبب اعتزام البرلمان الفرنسي تقديم قانون يمنع النقاب والبرقع بفرنسا، غير أن زهير رزق الله لا يتردد في إعلان أن التيار الذي ينتمي إليه "يدين الإرهاب" وكل "أشكال العنف"، ويقر بمراجعته للعلماء فيما أشكل على التيار في فرنسا.
الإمام رزق الله الذي أجبر على التنحي عن الإمامة من مسجد "ستان" بشمال باريس، والذي يحظى بشعبية وسط تيار الشباب السلفي في فرنسا يدافع -في حوارنا معه- عن النقاب والبرقع "بالأدلة الشرعية"، وربما من منطلقات شرعية أيضا يرفض أخذ صورة له.. وأمام مأزق السلفية والنقاب بفرنسا لا يتردد زهير رزق الله في اعتبار الأمر "حربا معلنة على الإسلام"، ولكن عندما نسأل عن الحل يجيب رزق الله "ليس لنا إلا الالتجاء إلى الله والابتهال له"، ويضيف "إن حدث وصودق على قانون يمنع النقاب فعلى الأخوات الفرنسيات أن تختار بين الامتثال للقوانين الفرنسية أو الهجرة إلى الدول الإٍسلامية ".
وفيما يلي نص الحوار كاملا:
*كيف تتعاملون مع هذه القضية كتيار سلفي في فرنسا؟
- باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله: الإخوة ينظرون إلى الأمر مسا لحرية وحقوق المسلمين، خاصة بعد تطبيق قانون منع الحجاب في المدارس والإدارات العمومية، وطبعا بعض الجهات المنسوبة للإسلام حاولت وتحاول إيجاد مبررات ومخارج لمثل هذه القوانين، وهذه المرة يحاولون إيجاد قانون يجبر الفتيات والنساء على التخلي على نقابهن في الشوارع وفي المغازات وفي الأماكن العمومية، ولا شك أن مثل هذا القانون هو حيف كبير ومس بحرية وكرامة المسلمات وانتهاك لحقوق الإنسان عامة.
*يعني أنتم تنزلون القضية في إطار حرية اللباس؟
- طبعا حرية اللباس هي حرية معتقد، فما تعبد به نساء المسلمين من فرض الحجاب رمز العفة والحياء هو امتثال لله واقتداء بسنة رسول الله، واحتذاء بالنساء الفضليات من السلف الصالح، وفيهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، فلا يمكن أن تأمر الناس أن يلبسوا لباسا خاصا معينا ما دام ليس في الأمر إخلال بالنظام العام في الشارع، ونحن نعتقد أن النقاب أو البرقع ليس فيه ضرر لأحد، بل الأكثر من ذلك فإن إحصاء عدد الأخوات اللاتي تلبسن البرقع أثبت أن عددهن لا يتجاوز عدة مئات، وهو عدد قليل مقارنة ببقية المسلمات، ولم يصدر منهن أي ضرر، أو مس بحقوق الآخرين، فلماذا هذا التمييز وهذا الكيل بمكيالين؟.
* المشكلة أن الجمعيات المسلمة ذاتها في فرنسا غالبيتها يقولون لكم بأن النقاب ليس واجبا شرعيا، فكيف تردون عليهم؟
- وإن كان في المسألة قولان ثابتان عند أهل العلم، فإن النقاب أو الجلباب ثابت في القرآن الكريم، وثاب في السنة الصحيحة، وثابت عن الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، وطوال خمسة عشر قرنا لم يخل بلد إسلامي من البرقع، ولا يقدر إنسان أن يثبت العكس فأينما ذهبت في المغرب أو الجزائر أو في مصر أو في الأردن أو في الجزيرة العربية أو غيرها تجده حاضرا، وكل ما في الأمر أن كثيرا من الذين يتكلمون في أمور الدين لم يدرسوا شرعا، ولم يسألوا شيخا، وبعضهم أصحاب شبهات قد تأثروا بأفهام دخيلة وفلسفات منحرفة غريبة عن الإسلام، وصدق رسول الله عليه وسلم القائل "فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا".
*إذن أعطنا النصوص التي تستند إليها؟
- هناك نصوص كثيرة ثابتة في القرآن الكريم منها آيات الحجاب الأولى، وهي في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم"، "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن" (الأحزاب 53).
فهذه أول آية نزلت بفرض الحجاب سنة خمس من الهجرة، وسبب نزلوها ما ثبت عند الإمام البخاري والإمام أحمد وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب، يقول ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية "وإذا سألتم أزواج النبي ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج، متاعا، فاسألوهن من وراء حجاب: من وراء ستر بينكم وبينهن".
وآية الحجاب الثانية فيها أمر صريح بإدناء الجلابيب على الوجه قال الله تعالى "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما" (الأحزاب 59)، قال الإمام السيوطي رحمه الله "هذه آية الحجاب في حق سائر النساء ففيها وجوب ستر الوجه عليهن".
ثم نزلت آية الحجاب في سورة النور في قوله تعالى "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن" (النور 30).
والخُمُر جمع خمار، ومأخوذ من الخمر وهو الستر والتغطية، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "ومنه خمار المرأة؛ لأنه يستر وجهها".
والأدلة من السنة كثيرة منها:
عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت "لما نزلت هذه الآية (يدنين عليهن من جلابيبهن "خرجت نساء الأنصار وكأن على رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها" رواه عبد الرزاق في المنصف.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت "يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وليضربن بخمورهن على جيوبهن) شققن مروطهن فاختمرن بها" (رواه البخاري)، وقالت رضي الله عنها "رحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك" شققن مروطهن فاحتجبن بها، فصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رءوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها".
وقالت عائشة رضي لله عنها "كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه" (رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي، يقول أهل العلم هنا تعارض واجبان واجب تغطية الوجه وواجب كشف الوجه على المحرمة فصار المخرج أن ترفع المحرمة عن وجهها عندما لا يكون بجوارها أجنبي، فإذا حاذاها رجال أجانب غطت وجهها، وكل هذا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم واجب ظاهر وسكوته عليه سنة تقريرية.
والأحاديث في الباب كثيرة، وأما الذين لا يرون وجوب النقاب ويرون أن المرأة يجوز لها الكشف عن وجهها وكفيها فهم يرون أن النقاب مندوب (لا كما يقول بعض الجهلة).
يقول الشيخ الألباني رحمة الله عليه، وهو لا يرى وجوب النقاب "فيستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة لوجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات أمر مشروع ومحمود، وإن كان لا يجب ذلك عليها، بل من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج عليه" (لباس المرأة المسلمة للشيخ الألباني).
*ولكن اسمح لي أن أقول إنه في واقع مثل الواقع الفرنسي لن تدخلوا مع السلطات الفرنسية بأن كان النقاب واجبا شرعيا أم لا، فماذا أنتم فاعلون؟
الرئيس الفرنسي. ساركوزي
- طبعا، الحال الآن والمشكلة أنك لا تستطيع أن تتصرف بأي شكل من الأشكال؛ لأنه من الواضح أنها حرب معلنة على الإسلام بدأت بمنع الحجاب، ثم الآن النقاب، ثم لا نعلم ماذا ستخبئ لنا الأيام، إنها حرب باسم الإرهاب ومحاربة الأصولية، وباسم مساواة المرأة للرجل وحرية المرأة وأشياء أخرى من هذا القبيل؛ وإنه لا أحد أعطى المرأة حريتها مثلما أعطاها الإسلام.
فماذا نستطيع أن نفعل؟! لا شيء تقريبا إلا الالتجاء إلى الله والابتهال له.. ولقد حاولت بعض الأخوات الاتصال ببعض وسائل الإعلام لإبداء رأيهن، وإثبات كونهن غير مجبرات على لبس البرقع، وتكذيب ما راج في ذلك؛ لأن الأمر يتعلق بقناعة ذاتية وشخصية لهن، وأعطيك مثلا على ذلك، فأنا يعتبرونني من رموز السنة هنا في فرنسا، ومع ذلك فإن زوجتي لم تلبس البرقع يوما، فلماذا لم أجبرها برأيك؟؟
*هناك منتقبات بدأن في التحرك من أجل توزيع عريضة للدفاع عن حرية لبس النقاب، هل تعتبرون ذلك شكلا من أشكال تحرككم؟
- لا علم لي بهذا الأمر، ولم لا إذا أتى هذا التحرك بنتائج إيجابية.
* ولكن هناك العديد من الآراء داخل الجالية المسلمة التي تقول إن هذه القضية كشفت مدى عزلتكم، وعدم قدرتكم على التواصل مع المجتمع، خاصة أنكم ترفضون المشاركة في الانتخابات، ولا تشاركون في الحياة العامة، وترفضون حتى العمل مع بقية الجمعيات المسلمة غير السلفية؟
- لسنا بحزب ولسنا بمذهب إنما نحن جماعة مسلمة نؤم المساجد، ونحاول قدر الإمكان أن نقتدي بالسنة فليس لنا تنظيم ولا حزب ولا قيادات، نطيع أولي الأمر، ونرفض العنف والإرهاب، ونرجع إلى أهل العلم في كل صغيرة وكبيرة، قال صاحب شرح السنة "الحق ما جاء من عند الله عز وجل، والسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وإن كانت هذه الظاهرة في ازدياد، فإنما ذلك راجع لبحث الناس عن الحق، خاصة الشباب في هذا البلد، ولكننا نعتقد أن الضغط عليها غير مفيد؛ لأنها لا تمثل خطرا على أي شخص أو جمعية أو جهة ما، ولا نرى جدوى من كل هذه الضجة المثارة في وسائل الإعلام.
* ولكن القانون كفيل بمنع أحد مظاهرها (وهو النقاب في الشارع)؟
هذا أمر وارد وربما سيمتثل أغلب الناس، ولكن لن يستطيعوا القضاء على الفكرة، ولعل القانون سيمنع النساء من لبس النقاب، ولكنهن "سيركن" في البيوت، وبالتالي يمتنعن عن الخروج إلى الشارع في أقصى الحالات، ولعل الشخص الذي كان يسمح لزوجته بأن تخرج وتقوم بمهام خارج البيت لن يرى بعد هذا القانون الأمر مجديًا.
* يعني هذا القانون سيحبس النساء في البيوت؟
- نعم، إلى حد ما، ولعل هذه إحدى نتائجه.
* ولكن من الوجهة الشرعية والفقهية وأمام هذه المشكلة أليست هناك آراء واجتهادات وجدت بعض المخارج للخروج من المأزق؟
- ليس مطروحًا بالنسبة لنا البحث عن مخرج فقهي للمشكلة، وإذا صار وطبق قانون من هذا النوع يمنع ارتداء هذا الزي في الشوارع فالأخوات سيحاولن الامتثال قدر الإمكان، ولكن لا يجوز كلما تجد عندنا قضية نبحث لها عن مخرج فقهي، وعندما جدت من قبل قضية الحجاب وحاول بعض قيادات "الإخوان" قالت: "إنه لا بد للطالبات أن تدرس حتى ولو نزعن الحجاب"، وهم هنا لم يبحثوا عن مخرج فقهي، ولكن بحثوا عن تأويلات تناسبهم، ودعاوى من أجل تبرير الواقع والقبول به، وهذا ليس منهجنا في المسائل الشرعية، فالذين لا يستطيعون تحمل هم هذا الدين ومسئوليته يجب عليهم ألا يبحثوا عن مخارج، وفي نهاية الأمر كلهم قبلوا بقانون منع الحجاب، ولم يصدر بعد كل هذه السنوات أي موقف منهم مخالف لذلك، واكتفوا ببعض المظاهرات والكلام الذي لم يجد شيئا، ومثلما وقع لقضية الحجاب يحدث الآن مع قضية النقاب، وربما غدا ستحدث قضية اللحية، ونحن لسنا مستعدين أن نجد مخارج فقهية كلما واجهتنا مشكلة من هذه المشاكل.
* لا ولكن هل طرحت القضية أمام مشايخ ومراجع في التيار السلفي في السعودية أو غيرها لأخذ رأيهم في الأمر؟
محجبة ترتدى العلم الفرنسي
- لم تطرح ولكن بعض المشايخ الذين عندهم علم بهذا الأمر قالوا إن النقاب موجود منذ وجود الإسلام، وهو أمر ثابت.
* قلت بعض المشايخ.. من تقصد؟
- والله لا تحضرني أسماء، ولكن أغلب الشيوخ يقولون إن هذه الحملات لن تضر الإسلام، ولعلها بالعكس قد تخدم الإسلام، ورأينا كيف أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لم تزد الحملات على الإسلام إلا عدد المقبلين عليه، وكل حملة تزيد عدد المعتنقين للإسلام.
* في نهاية الأمر أنتم ستمتثلون لأي قانون يصدر يمنع النقاب؟
- نحن عندنا ثقة في الله قبل كل شيء، ونظن أن الحكومة الفرنسية الحالية لن تصادق على مثل هذا القانون؛ لأن فيهم كثيرًا من العقلاء الذين يحترمون الآخر، ويحترمون حقوق الإنسان، وإن حدث وصودق على قانون فالأخوات الفرنسيات ككل المسلمات سيلتزمن بالقانون ويمتثلن له فهو حكم المضطر.
ولكن أعود وأقول إن هذا البلد فيه حكماء وعقلاء لن يقبلوا بمثل هذا القانون.
* يعني لا يوجد مدخل شرعي؟
- يعني هم بحكم أنهم في هذا البلد، وليس لهم أي خيار آخر إلا أنهم يمتثلون؛ لأن المنتقبة ليس لها أي خيار، إما الامتثال أو خيار آخر، وهو الهجرة وبعض الشيوخ يرون أن مثل هذه القوانين غايتها عن قصد هو إجبار هذه الطائفة على الرحيل من البلاد، وكثير من الفرنسيين هاجروا إلى السعودية وإلى مصر وإلى الجزائر وإلى المغرب بالعشرات.
* وأنتم يا شيخ بين خيار الهجرة والبقاء مع الامتثال ماذا تخير؟
- أنا في الوقت الحالي لا أفكر في كلا الخيارين؛ لأن قضية الهجرة ليست سهلة، ولا أستطيع أن أقوم في مقام أي شخص للخيار بين الأمرين.
--------------------------------------------------------------------------------
موضوع: رزق الله: المنقبات تختار بين الامتثال للقوانين الفرنسية أو الهجرة 
الجمعة يوليو 10, 2009 1:00 am
