في ضوء زيارتكم لمنطقة الأحساء وتقديم أمسية شعرية بها.. كيف تقرأ واقع الحركة الأدبية في المملكة؟
عرفت الحركة الأدبية في الأحساء من خلال صديقي المؤرخ الأديب محمد بن صالح النعيم صاحب الاثنينية، التى شاركت عبر الهاتف في العديد من أمسياتها، فلمست فيها بوادر الطفرة الثقافية التى تتحقق على أرض المملكة، والتى تدحض بقوة ما يردده بعض المغرضين عن ثقافة النفط، بعد ذلك تراكمت علاقاتي بأدباء هذه الواحة الوارفة، لذلك لم أتردد في قبول الدعوة الكريمة التى وجهها لي نادي الأحساء الأدبي ممثلاً في صديقي الناقد الكبير الدكتور نبيل المحيش صاحب منتدى المحيش الثقافي، لإحياء أمسية شعرية تشاطرني زخمها الشاعرة المتألقة والإعلامية المرموقة ميسون أبوبكر؛ وكانت التجربة مثيرة أن ألقى شعرًا لجمهور أراه وجمهور آخر لا أراه ولا يراني، أعني بالطبع جمهور النساء ، وقتها تحور الصوت تلقائيًّا إلى صوت وصورة أثناء الإلقاء، وازداد الحماس خاصة مع تجاوب الجمهور وتفاعله، لاسيما وقد بدأت بإلقاء القصائد الأكثر تعقيدًا، والأكثر صورًا، أتحسس خلالها قدرة الجمهور على فك شفرات جملي الشعرية التى أحاول جاهدًا أن أنأى بها عن السطحية والمباشرة دون أن أرمى المتلقى في آبار الطلاسم والغموض. بجدارة استحق جمهور الأحساء الأدبى وسام التلقي من الطبقة الأولى، لا أعنى بذلك كثرة التصفيق الذى دوّى في القاعة، ولا أصوات الذين كبروا، ولكنني أعني وقارًا حط على عقالاتهم، واستشرافًا تداخل مع ملامحهم.
سلعة بائرة
* والحال كما تصف في المملكة.. فما هو حال الأدب العربي مع الوضع الراهن؟
الأدب العربي حاليا يعاني كما عانى من قبل، وكما سوف يعاني في المستقبل من مأزق تفرضه طبيعته كأدب من جانب، وطبيعة المتلقي العربي الذى يعتبر تعاطى الأدب نوعًا من الرفاهية التى لم يتربَّ عليها من جانب آخر، حتى جاز لي
أن أقول: إن من يكتب أدبًا ينتج سلعة لا يحتاجها أحد. وهذه الجهود التى يبذلها الباذلون، والميزانيات التى ينفقها
المنفقون لا تزيد عن كونها حجرًا صغيرًا يحاول به هؤلاء وأولئك تحريك المياه الراكدة؛ ولكنها سرعان ما تعود إلى
ركودها، ولكننا دائمًا في حاجة إلى هذه الأحجار الصغيرة التى إذا كثرت وتوالت يمكنها أن تحدث فيضانًا ينهل الكل؛
مبدعون ومتلقون من روائه.. وعمومًا فالأديب العربي يدور في فلك شديد الضيق، لاهثًا وراء نجاحات محدودة سرعان ما يخبو بريقها ليتحتم عليه أن يعيد الكرّة من جديد. إن كتابا واحدًا لأديب أوروبي يمكن أن يحقق له الشهرة والثراء مدى الحياة، لكن عمرًا كاملاً لمبدع عربى حقيقي لا يكفل له ذلك.
معارك غائبة
* إن غابت عنّا القراءة - كما تقول - فأين ذهبت المعارك الأدبية التي كانت جائلة في المشهد الثقافي العربي.. ألم تكن مصدر إثراء للحركة الأدبية آنذاك؟
المعارك الأدبية في هذه الأيام تدور للأسف حول التفاصيل، وأغلبها تحركه نوازع لا يمكن وصفها بالأدبية، بينما كانت المعارك في بداية القرن العشرين وحتى منتصفه تدور في فلك أكثر رحابة، وفي ميادين شريفة حقًّا، خرج منها كل فرسانها منتصرين لأنهم لم يعتمدوا مبدأ الإقصاء والإلغاء والنفي للآخر؛ بل أقرّوا بالقيم الجمالية إقرارًا متبادلاً، واختلفوا حول مسائل أيديولوجية، عبّر خلالها كل فريق عن وجهة نظره، وكانت الكلمة الأخيرة للتاريخ الذى أثبت ما يستحق الثبوت، وألغى ما جاز فيه الإلغاء.
شهادة فقر وإعاقة
* كثيرة هي المناقص التي يرمى بها المنجز الشعر الحديث.. ويذهب البعض إلى رميه بتهمة الافتقار إلى أساسيات اللغة.. فما قولك؟
كثير من الذي نقرأه ونسمعه صعب عليك أن تتعامل معه كنص شعرى، فماذا تنتظر من نص قدم لك صاحبه شهادة فقره وسند إعاقته ثم راح يطالبك بالاعتراف به كشاعر.
موضة الشعر البديل
* برزت أصوات تنادي بعقد مؤتمر للشعر البديل.. هل بلغت “الأزمة” والصراع بين القديم والحديث إلى هذا الحد؟
يبدو أن كلمة البديل أصبحت موضة لغوية يستعملها كل من يريد أن يوهم الآخرين أنه متطور ومواكب لكل جديد في
الحياة؛ فهناك مثلاً الطب البديل؛ الذى يزعم أربابه أنهم قادرون على صنع المعجزات، ورغم ذلك فالناس يموتون هنا وهناك، فإذا طلع علينا من ينادون بالشعر البديل توهم البعض أن ما نكتبه وكتبه أسلافنا من قبلنا لم يعد صالحًا
لمواكبة التغيرات الحياتية، أو أنه يخلّف أعراضًا جانبية لا يحتملها القارئ. أنا لا أحب المصادرة على أحد، من أراد أن يقدّم شعرًا بديلاً فليقدّم شعره البديل، والزمن خير حكم على مثل هذه التجارب.
عذر مرفوض
* يقول أحد القراء العرب أنه لم يعد يحب القراءة لأنه لم يعد يفهم لغة الكاتب أو الشاعر.. وأن الاثنين يتحدثان لغة
فوقية أو يكتبان لغة لا تفهم.. أتوافقه الرأي؟
إذا كان هذا القارئ لا يفهم لغة “س” أو “ص” من الكُتّاب فلماذا لا ينصرف إلى قراءة بقية الحروف الأبجدية..، إذا كان هناك أديب أو أكثر يكتبون الطلاسم؛ فهناك الكثرة الغالبة التى تكتب أدبًا واضحًا مفهومًا، وهذا القارئ ليس مجبرًا على تعاطى إبداع أديب بعينه، فالنماذج أمامه مختلفة وكثيرة؛ وله أن يختار ما يوافق ذوقه وإمكاناته العقلية والثقافية، وخلفياته المعرفية، فهذا عذر غير مقبول من هذا القارئ الذي تشير إليه.. أما عن الأدباء الذين يطلسمون ما يكتبون بدعوى موت المتلقي، أو غيرها من الدعاوى، فهؤلاء مغامرون؛ من حقهم المغامرة، كما أن من حق الحركة الأدبية أن تتعامل معهم بكثير من التحفظ، فالعلاقة بين إبداع الأدب وبين تلقيه هي أكثر العلاقات الاختيارية في الحياة.
دواوين بلا جدوى
* تذهب سخرية البعض إلى الزعم بأن بعض الدواوين الشعرية لو دفعت قيمة طباعتها للفقراء لكان أجرها أفضل من تضييع الوقت في كتابتها وطباعتها وتوزيعها لعدم جدواها.. ما قولك؟
لولا أن طباعة هذه الكتب يستفيد منها عمال المطابع وتجار الورق ومكاتب الإخراج الفنى والفنانون الذين يصممون
الأغلفة؛ وفي الغالب كل هؤلاء فقراء؛ لقلت إن عدم طباعتها أجدى، هي في النهاية أموال تصل إلى الفقراء بشكل أو بآخر والحمد لله الذى جعل الكتابة مظهرًا من مظاهر الوجاهة التى يسعى إليها الأثرياء؛ الذين لا يعلمون أن الكتابة همّ حقيقي يلّح على المبدع ويؤرقه فيكون فعل الكتابة محاولة للخروج من نفق مظلم شديد الضيق. فإذا رأى بعض
الأثرياء أن لقب الأديب أو الشاعر يضيف إليهم شيئًا، وحاولوا تحقيقه من خلال طباعة كتب فخمة دل ذلك على المكانة المرموقة التى يتمتع بها الأديب الحقيقي؛ حتى وإن كان ينقصه الثراء.
صاروخ مقاس 43
* أصبح البعض يرى في “الحذاء” لغة للتخاطب مع المخالفين.. هل يبدو بديلاً معقولاً برأيك؟
إذا كنت تشير إلى حذاء منتظر الزيدي الذي رمى به في وجه بوش، فلم يكن جورج بوش الابن ممن نختلف معهم إنه العدو الحقيقي لكل منصف في العالم، وحين لا نملك سلاحًا حقيقيًّا فإن زوجًا من الصواريخ مقاس 43 ربما أن يكون كافيًا للتعبير عن غضبنا من ناحية، وعن عجزنا من ناحية أخرى.