شادي صلاح الدين
فضاءات مختلفة يدور فيها الناقد والروائي المغربي الدكتور محمد برادة، فعبر سنوات من النضال السياسي المحفوف بالهم الثقافي طرح برادة نفسه نموذجًا، مرة بالعمل السياسي المباشر الذي أودى به إلى الاعتقال، ومرة بالعمل الثقافي الذي ينطلق من أن أي إصلاح سياسي عربي لا بد من أن يبدأ من دائرة الثقافة، وبين هذا وذاك يمارس برادة عمله كأكاديمي وناقد وروائي، وفي ذلك كله يؤكد دور المثقف العربي الممكن، وقد طرح مؤخرًا في محاضرة قاهرية تصورًا عن دور المثقف في الوضع العربي الراهن، وما أسماه بفعل الكلام.
* لم يبق للمثقفين سوى فعل الكلام، ماذا تقصد حين تقول ذلك وأي فعل في الكلام؟
- عندما نحلل ونعاين واقع المجتمعات العربية الراهنة نجد أننا أمام أبواب مغلقة بالفعل، ليست هناك صيرورة تنبئ بأننا سنتطور، وأننا سنتغلب على مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية، وأننا سنصبح مجتمعا ديمقراطيا، هناك شعور بالانحدار، وهذا ما بدأ يتأكد منذ هزيمة 1967، أمام هذا الوضع الذي أتاح للأنظمة أن تستبد بشعوبها، وأن تحكم رأيها بدون إشراك الجماهير الواسعة من خلال الجمعيات والأحزاب والنقابات، يصبح المثقف عاجزًا عن فعل أي شيء، فهو لا يصنع المعجزات، وهو جزء من مجتمع كبير، لكن المثقف يتوفر على قدرة تحليل، على أفكار، على ثقافة، ومن ثم، يقف على الحقيقة، وبالتالي حين يمارس فعل الكلام فإن كتاباته وكلامه ليس مجرد كلام، ولكن بمثابة فعل، إذن الكلام ليس مقصودا لمجرد الكلام، وإنما كلام يفتح الطريق أمام الفعل المغير، بطبيعة الحال، لا يمكن أن نطلب من المثقف أن يقول الكلام ويطبقه؛ لأن المثقفين جزء من المجتمع ولا يشكلون أغلبية؛ وبالتالي يستطيعون أن يحاوروا ويفتحوا أعين الناس على المشاكل والقضايا، هذا هو فعل الكلام المسئول، بمعنى أنهم يجهرون بما يرونه الحل، بقطع النظر عن أنهم يقومون بتطبيق هذا أم لا، وشرحت أيضا أن هناك أزمة تتمثل في انفصال الثقافي عن السياسي، على عكس ما كان في فترة الكفاح من أجل الاستقلالات، كان هناك نوع من الالتحام بين الثقافي والسياسي، ولكن عندما أنشئت الدول الوطنية بعد الاستقلالات وقع انفراد بالحكم من جانب أغلب السياسيين، ولم يعودوا يلتفتون إلى ما يقوله أصحاب الفكر والثقافة، إذن فعل الكلام يمكنه أن يصنع مناخًا آخر لنشوء فئة من السياسيين تطرح فكرًا سياسيًّا جديدًا يقوم على المصالحة والديمقراطية وتوزيع الثروات بدون استثناء.
السلطة والمثقف
* فعل الكلام يتم تداوله عبر وسائل الإعلام، وهذه الوسائل في الأغلب الأعم في أيدي السلطات والحكام، كيف إذن يعمل المثقفون بمعزل عن السلطة؟
- هناك نوافذ كثيرة مثل الإلكترونيات، والوسائط، والإنترنت تسمح بنشر ما هو محظور داخل المجتمعات العربية، هناك إمكانية لإصدار كتيبات، مجلات محدودة، قادرة على توصيل فعل الكلام بهدف نشر الوعي بين الفئات المختلفة، دوريات على الإنترنت.
وإذا دققت الملاحظة وجدت كثيرًا من الشباب في العالم العربي يعيشون خارج الخطاب المتخشب المكرور الذي تردده وسائل الإعلام المختلفة.
* متى يتصالح السياسي والثقافي مرة أخرى؟
- أنت تحتاج إلى خلق جدلية جديدة، الذين استولوا على السلطة وصلوا إلى مرحلة إنتاج الهوامش لدرجة أن القوى الغربية والولايات المتحدة الأمريكية تطالب بالإصلاح، بمعنى أن هذا الهامش الذي كان يتيح لهم الاستبداد والحكم المطلق لم يعد مقبولا، حتى من لدن الجماهير البسيطة، أنت تعرف أنه في كل بلد – في المغرب كما في مصر- كل الفئات المجتمعية التي تتضرر من الأوضاع القائمة تنزل إلى الشارع للاحتجاج.
كل الفئات الاجتماعية الآن تنزل إلى الشارع للاحتجاج عندما تتضرر، هذه قوة احتجاجية أساسية، ولا ينبغي أن تظل هكذا، لا بد أن تبحث لها عن شكل سياسي، والشكل السياسي الملائم هو نشوء أحزاب متنوعة، لا تكون مفروضة من فوق، وتعبر عن التباين الاجتماعي، ومن ثم يجب أن يكون صوت الثقافة والفكر السياسي حاضرا ليتحدث عن مستقبله.
وعندما نقول الديمقراطية هي الحل، هذا لا يكفي، فالديمقراطية في أوروبا جاءت على فترات، وتحتاج إلى تنقيح وإصلاح دائم، الديمقراطية مجال، أفق للبحث والتطبيق، والمزاوجة ما بين الفكر والفكر، بمعنى أن الفكر السياسي والثقافي يعبران عن اهتمامات الناس وتطلعاتهم إلى حياة متوازنة اقتصاديا واجتماعيا، وأظن أن هناك شروطا موضوعية تستدعي خلق فكر سياسي جديد، وهذه فرصة المثقفين والمفكرين والمبدعين لكي يجهروا بالنقد.
السياسة العربية
* باعتبارك مارست العمل السياسي، فضلا عن أنك مثقف، هل عربة السياسة (وأنا أستخدم تعبيرك) إلى الوراء، أم إلى الأمام؟
- لا، عربة السياسة العربية متوقفة محلك سر، بمعنى أن النظام العربي الذي كان يشكل أفقا تبين أن مصالحه الإقليمية تغلبت، والجامعة العربية تحاول أن ترقع الأشياء، هناك أزمة، ما دمت – كمواطن- لا تجد محالا يتيح لجميع الفئات الرجال والنساء والشباب بالأخص والشيوخ أن يعبروا عن طموحهم من خلال عمل سياسي منظم يخلق الحماس، ويعبئ الإرادات فأنت متوقف، السياسة التي تمارسها البلدان العربية سياسة انتظار، في كل شيء، حتى عندما نرصد نموذج قضية فلسطين، فمنذ أوسلو المسائل للوراء، وإسرائيل لم تتخل عن شيء، والمقترحات العربية -برغم ما فيها من تنازل- لم تجد آذانا صاغية، والأقطار العربية بحجمها لم تستطع أن تؤثر في الساحة السياسية العالمية، وهو ما يعني أن عربة السياسة واقفة إن لم تكن متلاشية.
* طرحت أن عربة الثقافة يمكنها أن تجر عربة السياسة، هذا بافتراض أن عربة الثقافة متقدمة، هل هي متقدمة؟
- الثقافة تشمل الفن والفكر، وحضور الفعل الثقافي في المجتمع نفسه يتمثل في أشياء كثيرة، الثقافة بهذا المعنى تكون أقرب إلى واقع المجتمع؛ لأنها تعبر عنه، الثقافة هي الأقرب لحركة المجتمع، المجتمع -لحسن الحظ- في حركة دائمة لا يتوقف، السياسة هي مجرد تنفيذ، السياسة عندنا –كما نشاهدها- لا تعتمد على فكر عميق، فالفكر السياسي العميق هو الذي يعيد طرح سؤال علاقة الدولة بالفرد، وعلاقة الوطن بالمجتمع وقيم الماضي والمستقبل، لكننا نجد حكومات تطلع بوعود وبرامج، وشتان ما بين الكلام والحقيقة، ومن يرد الحقيقة يعاني الإقصاء، الثقافة ديناميكية، والمثقف والمفكر والفنان يقرأ ويتابع ما يجري في العالم، ويقارن، بينما السياسي في بيروقراطية قراراته قد لا يجد وقتا ليفكر، وعندما يفكر لا يريد أن يغير، وهذه الجدلية بين الثقافة باعتبارها مجالا للحرية والتفكير وإعادة النظر والتطلع للجديد، والسياسة التي سرعان ما تغدو سجينة في قوالب معينة تدفع إلى التغيير على المستوى السياسي.