لم تسلم رواية الدكتور يوسف زيدان «عزازيل» من الهجوم والانتقاد «الديني» العنيف الذي أضرّ بها من ناحية التناول الأدبي المحض، غير أنه في المقابل أكسب ناشرها حماسًا لطبعها ست طبعات متتالية، وبرغم فوز الرواية بجائزة البوكر العربية، إلاَّ أن هذا الفوز قوبل -بنظر صاحبها- بنوع من الفتور والبرود، الأمر الذي دفع به إلى القول بأنه محاولة لإفساد بهجة مصر بهذا الفوز.
زيدان نفى أي مشابهة بين روايته “عزازيل”، ورواية “شفرة دافنشي”، أو رواية “آيات شيطانية” لسلمان رشدي، مؤكدًا بُعد المسافة بين روايته والروايتين السابقتين، واصمًا مَن يزعمون مثل هذا التشابه بعدم قراءة الروايات الثلاث، بل هي محاولة منهم لتمرير الاتّهامات المفخخة.
زيدان في حواره هذا مع “الأربعاء” يطلق مشروعًا يحمل عنوانه كل بوادر الاستفزاز “اللاهوت العربي” في سياق مشروعه الروائي القائم على نبش التاريخ، واستدعائه عبر الرواية إلى الحاضر الآني.
العديد من المحاور والقضايا والصراعات طي هذا الحوار مع الروائي يوسف زيدان صاحب “عزازيل”.
* روايتك “عزازيل” أثقلت كاهلها الانتقادات الثقيلة.. فهل خفف فوزها بجائزة البوكر العربية من ذلك شيئًا؟
حصول “عزازيل” على الجائزة لم يمنع مَن انتقد الرواية أن يراجع نفسه؛ وينظر إليها على أنها عمل أدبي، وعندما عدتُ إلى مصر وجدت الاحتفاء في الأوساط الأدبية، ولكن هناك مَن يحاول إفساد فرحة حصول مصر على جائزة أدبية لعامين متتاليين، فتعاملوا معه على أنه حدث عادي، ولو كنتُ لاعب كرة أحزر هدفًا مؤثّرًا لكان الاحتفاء أكبر.
* الهجوم على هذه الرواية بالتحديد لم ينقطع أبدًا منذ صدورها.. فكيف واجهته؟
بهدوء شديد.. ودُهشتُ من الثورة التي لا معنى لها على الرواية، لأنها جاءت من أشخاص لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك صنعوا هذا الصخب الكبير، وحتى بعد إعلان الجائزة لم يشفع ذلك عند هؤلاء؛ ولم يراجعوا أنفسهم، ليتركوا الأدب للنقّاد ويقوم رجال الدِّين بالدور المطلوب منهم وهو رعاية شعب الكنيسة، أمّا خلط الأوراق بأن يصير الأسقف والكاهن هما الحاكمين على النصوص الروائية، فهذا هو المضحك المبكي.
ضد العنف المقدس
* هل تعمّدت مواجهة رجال الدِّين بالتصدّي لشأن مسيحي تاريخي؟
إطلاقًا.. فـ “عزازيل” كتبت باحترام شديد للتجربة الدينية، واحتفاء كبير بالإنسان، وبتعاطف لا حدّ له مع الضياع الذي عانى منه الإنسان قديمًا وما زال يعاني، وأخيرًا كُتبت ضد العنف المقدس الناطق باسم الله، كتبت “عزازيل” ونفضت يدى منها، وبدأت بعدها في كتاب جديد هو “اللاهوت العربي”، ولم أنظر للقراءات العنيفة للنص، فكثير من الكنائس العالمية قرأت الرواية، ورأت أنها تلمس روح المسيحية، وهناك أشخاص قليلون لم يعجبهم النص، وأتساءل كيف استطاع شخصان أو ثلاثة أن يصنعوا كل هذه الجلبة؟!
* هناك مَن قارن بين “عزازيل” ورواية “شفرة دافنشي” لـ “دان براون”، وآخرون شبّهوها برواية “آيات شيطانية” لـ “سلمان رشدي”.. فهل تري ما يرون؟
هذا كلام مدهش، ودال على أن مَن يقوله لم يقرأ “عزازيل”، ولم يقرأ “شفرة دافنشي”، أو حتى “آيات شيطانية”، ويحرص على الاتّهام فقط بأى وسيلة.. فلا يوجد تشابه مع “شفرة دافنشي”، فهى رواية بوليسية تعتمد على المغامرة والتشويق، و“عزازيل” رواية فلسفية، والصلة مقطوعة تمامًا مع سلمان رشدي في “آيات شيطانية”، فحينما كتب رشدي روايته قلت إن هذا اعتقاده وحقه فيما يكتب، ولكنه عندما قرر أن يزور مصر ويتبرّع للأزهر بعشرة آلاف جنيه إسترليني لبناء مدرسة، كتبتُ مقالاً بعنوان “توبة سلمان رشدي” وطلبتُ من المسؤولين وقتها عدم قبول الزيارة، فلا يجوز أن نقبل مثل هذه الحركة المسرحية من رشدي؛ لأن هذا لا ينطبق على معنى التوبة الصحيحة في الدّين الإسلامي، ومَن يربط هنا بين الثلاث روايات لا يهمه سوى أن يسوق الاتّهامات.
استثمار “الجهل”.
* وماذا عن زعم القمص عبدالمسيح بسيط بأن روايتك مقتبسة من رواية المؤرخ الإنجليزي تشارلز كنجسلي “هيباثيا” التي ألفها في القرن التاسع ونشرت في مصر في الستينيات؟
القمص عبدالمسيح بسيط عليه أن ينشغل بشعب كنيسته ورعاياه، وليس تتبع الحياه الأدبية؛ لأن لهذا الأمر متخصصين يقومون به، وما يحدث دال على الفوضى العارمة التى يعاني منها واقعنا المعاصر، وهو وضع مضحك وسخيف؛ فهؤلاء يسوقون الاتهامات حتى أدافع عن نفسي، ولكنى لن أدافع، وهل لكون شخصية “هيباتيا” ظهرت في “عزازيل” وظهرت في عمل آخر يُقال إني اقتبست فكرة الرواية.. هناك مَن اعتبر مجرد وجودها في الروايتين اقتباسًا، ولا يعرف أن “هيباتيا” ظهرت في أكثر من 150 عملاً روائيًّا منها أعمال للدكتور أحمد عتمان، ومهدي بندق، والروائي الفرنسي ألان البادو في رواية “عبدة الصفر”، ولا يعنىني هذا أن أحدًا اقتبس من الآخر، فرواية كنجسلي وعظية، قدمت “هيباتيا” على أنها امرأة تمارس السحر، وقتلها المسيحيون المتدينون لخوفهم من شرّها، وصوّر أسقف الأسكندرية على أنه رجل محب للسلام، وشعر بالحزن من أجلها، وشاهد حادثة قتلها راهب لم يستطع تحمّل الموقف فخرج من المدينة، وهي بذلك تختلف تمامًا عن رواية “عزازيل”، ومن ساق هذه الاتّهامات يحاول أن يحوّلني إلى مدافع، ويعتقد وقتها أنه انتصر، ويراهن على أن من يستمعون له لم يقرأوا لكنجسلي، وربما “عزازيل” أيضًا.
تراكم معرفي
* كيف تقرأ أثر التراكم المعرفي في “عزازيل”؟
الكتابة تحتاج إلى أدوات، والأداة الأولى هى المعرفة، والتي لا تتكون بين ليلة وضحاها، أو من قراءة كتاب واحد فقط، إنما هي عمل يستغرق سنوات طوال، وهذا التأسيس المعرفي كان مهمًا قبل كتابة رواية تحمل الصفة الفلسفية مثل “عزازيل”، واطمأننت على التأسيس المعرفي عندما قال لي الناقد أحمد عتمان في مناقشة سابقة للرواية: هل هناك بالفعل مخطوطة؟ وإذا لم تكن كذلك؛ كيف وصفت هذه الأوصاف الدقيقة للأماكن والشخصيات؟ هذا التساؤل وقع عندى موقعًا حسنًا، وشعرت بالاطمئنان على دقة الحالة، لأننى أهتم بتفاصيل الحياة اليومية في المرحلة التى أكتبُ عنها كمحاولة لبعث هذه المرحلة في الأذهان وجعلها حية تنطق.
كتابة صعبة
* لو نظرت إلى بدايات شروعك في كتابة أي عمل روائي.. فكيف ترسمها؟
(مبتسمًا): تتشكّل البدايات علي نحو خفي وغامض وسحري، والأفكار تنبثق وتتوالى، وأحيانًا أمسك بفكرة من الأفكار فأضعها في سلسلة ضخمة من العلاقات، وأستعين باللغة المناسبة للتعبير عنها، إذا كان هذا بحثًا أو عملاً أدبيًّا، فيتشكّل النص من الفضاء الذهني أولاً، ثم يخرج على الأوراق، فأنا أتبع طريقة صعبة في الكتابة، إذ تكتمل المشاهد في ذهني ثم أكتبها، وكأني أمليها على نفسي، ومن الأفكار التي اكتملت قبل البدء في “عزازيل” وقت أن حدثت في الأسكندرية تعديلات في الشواطئ فأحدثت تعديلات في التيارات المائية، ورغم أني أعرف أحوال البحر وتقلبات الدوامات، وجدت نفسي انجذب في دوامة صغيرة افقدتني السيطرة، ثم انتهت فجأة مثلما بدأت، ومن هنا جاء لي مشهد خروج بطل الرواية “هيبا” من البحر بعد وقوعه في دوامة مشابهة إلى الحياة من جديد التي هي “أوكتافيا”. وهذا سؤال جيد بالمناسبة!
مداد الدم
* مقدمة الرواية أوحت للبعض بواقعية العمل كما لو كان بالفعل ترجمة لمخطوطة قديمة لراهب حقيقي عاش في تلك الفترة.. وغاب عن ناظرهم أي أثر للخيال فيه.. فهل توجد مخطوطة حقًّا؟
(تتسع ابتسامته): هذا سؤال غير جيد، فلا توجد مخطوطة بالطبع، والقارئ هنا في “عزازيل” ليس متلقيًا عاديًا؛ إنما فاعل بقراءته، ومشارك ومتورّط أيضًا، وحرصتُ على ذلك طيلة الرواية، ويومًا ما سيتوقّف بعض النقّاد عند توقيتات الهوامش كما لو كانت خطابًا غير مباشر لم أره، ولا أود أن يكون قارئ الرواية من النوع الذي يستسهل، ويقرأ دون تفكير أو عناء؛ بل عليه أن يبذل جهدًا في القراءة، فهو لا يقرأ مقالة؛ بل رواية. و “عزازيل” كتبتها بمداد الدم، لذلك فهي جديرة لهذا السبب بالقراءة.
اهتمام بـ “ظل الأفعى”
* ألا ترى أن روايتك الأولى “ظل الأفعى” حظيت بنقد أدبي متخصص، ولم تتناوشها أقلام الاتّهام برغم أنها تناقش فترة تاريخية صعبة أيضًا عكس “عزازيل”؟
“ظل الأفعى” تجربة روائية مختلفة سواء في بنيتها العامة أو في القضية التي تطرحها، فقد تناولت فيها مسألة الأنوثة ومرحلة الانتقال من حالة القداسة في صورتها الأولى في زمن ما قبل الديانات إلى الصورة التى طرحتها اليهودية عن المرأة، وعالم الأسطورة والنصوص القديمة، عالم أتحرك فيه وأنسج منه كما يتطلب النص، ومع هذا الجزء الأول من الرواية وقع في المستقبل القريب عام 2020 ، ومن حسن حظ “ظل الأفعى” أنها واجهت فور صدورها تصديًا أدبيًّا من نقّاد متخصصين، ناقشوا الرواية، وتقبّلها القراء باعتبارها عملاً أدبيًّا؛ وبالتالي لاقت رواجًا، وطبعت ثلاث طبعات خلال عامين، أمّا “عزازيل” فقد تأخّر عنها النقد قليلاً، ممّا فتح المجال للفهم الخاطئ من بعض الأشخاص لتحدث هذه الضجة حولها، ورغم أني أهتم باللغة كثيرًا؛ فإن معظم الدراسات النقدية لم تنتبه بالقدر الكافي إلى اللغة التي كتبت بها الرواية، لأني أعكف على اللغة لجعلها قادرة على التعبير، ورهيفة دون الهبوط بها إلى لغة الشارع، وفي “ظل الأفعى” مثلاً أعدت بناء النص أكثر من مرّة، وظن القرّاء والنقّاد أن لغة النصف الثانى منها هي لغة العصر الذي دارت فيه أحداث الرواية.
تركيز على الجوائز
* لكن الضجة حول “عزازيل” فتحت لها المجال لتطبع ست طبعات خلال عام واحد؟
حصول الرواية على جائزة أهم عندي من صدورها في عشرين طبعة؛ لأن الجائزة تؤكّد البعد الأدبي، ومكانة الرواية. وتداول الطبعات عمل تجاري ليس لي دخل فيه، والمستفيد منه هو الناشر، وهناك كتب سابقة لي حظت من قبل بأكثر من طبعة مثل كتاب “شعراء الصوفية المجهولون”، طبع في أربع طبعات، وكانت الطبعة الأولى منه في 25 ألف نسخة ونفدت في فترة قصيرة، وأعتقد أن هذا الرقم أكبر من عدد النسخ المطبوعة من “عزازيل” حتى الآن والمسألة ليس في عدد النسخ، القيمة الأدبية للنص هى التى ستبقى.
سوء فهم
* أشرت إلى أن كتابك الجديد يحمل عنوان “اللاهوت العربي”.. ألا يبدو العنوان مستفزًا للأذن العربية؟
انتهيت من الكتاب بالفعل، وموضوعه عن التقاء التاريخ المسيحي والإسلامي من خلال ما يسمّى بالتاريخ الهرطوقي الذي أرى أنه كان فكرًا عربيًّا في الأساس، ثم علم الكلام الإسلامي، وعلوم العقيدة “الثيولوجيا”، وكيف يتم التماس بين هاتين الدائرتين، ليس على مستوى التأثير والتأثر؛ بل معنى التواصل التاريخي الذي غاب عن فكرنا المعاصر عبر عمليات الفصل المتعمد بين المراحل التاريخية، ومن ثم أدّى إلى سوء فهم كبير.
الأنباط المنسيون
* وماذا عن مشروع الرواية الجديدة؟
لم أبدأ في كتابتها بعد، ولكن هناك بعض المشاهد التي تقتضي الإقامة لفترة في منطقة حياة “جماعة الأنباط”، فمحور الرواية في جنوب الأردن الآن حيث عاشت هذه الجماعة التي أراها منسية عنا ثقافيًّا برغم الدور الكبير الذي قامت به في التاريخ العربي قبل الإسلام، وأيضًا بعد ظهور الإسلام، وحتى فتح مصر.
* ولماذا الأنباط تحديدًا؟
لأنهم جماعة منسية، قامت بدور كبير في التاريخ العربي باعتبارها أحد المكونات الرئيسية للشخصية العربية قبل الإسلام؛ ولكن مع مجيء الإسلام ذابت هذه الجماعة، ومع ذلك بقيت حتى القرن الثالث، فيقابلنا مثلا “ابن وحشي النبطي” أول من كتب أبحاثًا عن علوم الزراعة، ولكن المعاصرين غاب عنهم هذا التفكير.
كشف المخفي والمستور
* وما سبب الولع بالتراث القديم والتاريخ المنسي؟
ربما كان من الولع أن أكشف عن المخفي والمستور في التاريخ، فمنذ عامين عقدت مؤتمرًَا دوليًّا في مكتبة الإسكندرية تحت عنوان “المخطوطات المطوية” للكشف عن هذه المخطوطات المهمة التي انطوت وغابت عن واقعنا المعاصر، وبالتالي أدت إلى فهم غير واضح ومشوّه أو ناقص عن تراثنا القديم، ومن هذا الباب أدخل إلى المراحل التاريخية المنسية، ومن مدخل إنساني يبحث عن الإنسان الذي اختفى مع هذه المراحل لبناء وعي واقعي بقصد فهم الماضي، واستشراف المستقبل على نحو صحيح.
مشروع روائي
* من خلال اهتمامك بالتراث القديم هل من الممكن أن تكتب رواية مستوحاة من التراث الإسلامى؟
أملك مشروعًا روائيًّا يستهدف الكشف عن المناطق المنسية في التاريخ؛ لأني أرى أن واقعنا المعاصر بكل ما فيه من عناصر مركبة ومتداخلة وأحيانًا معقدة، يشير إلى مناطق لا نعلم عنها الكثير، فبالتالي من الضروري أن تتم إضاءة هذه المناطق، سواء على المستوى البحثي العام، أو تحقيق النصوص التراثية أو التأليف الأدبي، والمشروع ينتقل تدريجيًّا من الماضي السحيق في “ظل الأفعى” إلى الزمن المصري المسيحي، ثم إلى السنوات العشرين قبل الفتح الإسلامي في “النبطي”، ثم تحول مصر من القبطية إلى اللغة العربية في القرن الرابع الهجري، ثم زمن المماليك، ثم عصر النهضة الحديثة، وهذه التنقلات تمثّل مشروعًا روائيًّا أسعى لإتمامه.