فتحت عيني دون أن أعي السبب الذي جعلني أستيقظ، ولكن قبل أن أنتقل تماما إلى عالم الوعي شملتني أصوات طفولية ندية تمتزج معا لتكون سيمفونية من أعذب ما سمعته أذناي، لكنها لا تشدو بأغاني الطفولة أو تتصايح أثناء اللعب كما هو متوقع في الإجازة الصيفية، وإنما هي تنطلق مرتلة لآيات القرآن الكريم بأصوات عذبة مشربة ببراءة الطفولة لتمتزج مع بكارة الصحراء المحيطة الممتدة بامتداد البصر وطلاوة نسيم الصباح النقي.
كانت هذه أصوات طلبة وطالبات محظرة تكماطين أو محظرة الشيخ محمد سعيد صيار ولد عم التي ظلت ترافقني طوال إقامتي في تكماطين التي زرتها لحضور ندوتها السنوية للفكر الإسلامي.
اجتذبتني هذه الأصوات ووجدت نفسي مدفوعة للذهاب للمحظرة للتعرف عليها عن قرب ورؤية أصحاب هذه الأصوات العذبة.
ما إن دخلت المحظرة حتى شعرت أنني انتقلت إلى زمن آخر إذ لم يكن من دلالة على أننا في القرن الحادي والعشرين سوى ملابس الطلاب. فالمحظرة عبارة عن غرفة عارية من الأثاث يفترش طلبتها الأرض ويستخدمون الألواح الخشبية التقليدية لكتابة وحفظ نصوص القرآن، وربما هذا هو سبب انتشار المحاظر في القرى والبوادي فهي لا تحتاج إلى أي تجهيزات متقدمة تكلف كثيرا، كل ما تتطلبه هو الشيخ القائم بالتدريس ومكان لاستيعاب الطلبة والألواح وأعواد الكتابة والحبر.
وإن كانت الأصوات العذبة قد شدتني لزيارة المكان فإن مشاهدة أصحاب هذه الأصوات كانت أشد تأثيرا، فقد طالعتني الوجوه الإفريقية بملامحها ولونها المميز والفتيات الصغيرات بضفائرهن الإفريقية المعروفة، كان من الصعب علي استيعاب أن هذه القراءة الفصيحة المجودة للقرآن تخرج من هؤلاء الأطفال الذين لا يستخدم الكثير منهم اللغة العربية في حياتهم اليومية.
نظام المحظرة
اتجهت إلى عبد الله ولد أحمد أحد المدرسين في المحظرة لأتعرف منه على نظام الدراسة فيها فأخبرني أنه يقوم بتدريس الطلبة الكبار الذين يبلغون الثالثة عشرة أو أكثر حيث يقوم بتحفيظهم القرآن وتعليمهم قواعد التجويد وتدريسهم متن ابن عاشور في الفقه المالكي. وتبدأ عملية حفظ القرآن بأن يقرأ الشيخ على الطلبة الآيات المطلوب منهم حفظها مجودة، وينقل الطالب الآيات على اللوح برسم المصحف ويري اللوح للشيخ حتى يتأكد من عدم وجود أخطاء في الرسم، ثم يستمع الشيخ لقراءة الطالب ليتأكد من إتقانه، ومن ثم يبدأ كل طالب في ترديد واجبه حتى يتم حفظه.
أما صغار الطلبة فيتم تعليمهم بداية القراءة والكتابة لأن طريقة الحفظ تعتمد بشكل كامل على القراءة من الألواح أو من المصحف.
والدراسة في محظرة تكماطين مجانية، كما تكفل المحظرة عددا من الطلبة اليتامى، بالإضافة إلى التكفل بإعاشة طلبتها القادمين من خارج تكماطين الذين يقيمون إقامة كاملة في المحظرة، وتتكفل المحظرة بطعامهم وكسائهم ومداواتهم في حالة المرض.
ويوجد في المحظرة عدد من الطلبة الدائمين المتفرغين لها بالإضافة إلى طلبة المدارس النظامية الذين يأتون للدراسة في المحظرة بعد الدوام المدرسي أثناء السنة الدراسية، ويتفرغون للمحظرة تماما أثناء الإجازة الصيفية.
أحمدو بمبا ابن المشرف على المحظرة سعيد صيار ولد عم الذي أنشأ آباؤه المحظرة واستمروا في تعهدها على مدار أكثر من 900 سنة حدثني عن نشأة تكماطين ومحظرتها والدور الذي قامت به عبر التاريخ، فقال إن تكماطين كلمة أمازيغية بربرية لتداخل البربر والأفارقة قبل قدوم العرب الوافدين إلى هذه الأصقاع والذين قدموا خدماتهم الجليلة للإسلام من خلال رباط المرابطين الذين وصلوا للأندلس بمعونة الأفارقة.
وتكماطين التي تقع على تخوم ضفاف نهر السنغال بها مدافن بعض أصحاب المرابطين كقاضيهم إبراهيم الأموي، وتعود هذه القرية لما يناهز الألف عام وتشكل نسيجا بين آل البيت والزنوج، والمحظرة قديمة قدم القرية إذ إن آل البيت جاءوا يحملون معرفة ينشرونها ودعوة يوصلونها وتواصلا يكملونه، كما يذكر أن مأذنة مسجد تكماطين من أقدم مآذن بلاد شنقيط، أو بلاد التكرور، كما كان يطلق على موريتانيا من قبل.
ويقول بمبا إن من أهم ما قدمته محظرة تكماطين رجال نسخوا المصحف الشريف بكثرة دعما لرباط الحظرة الموريتانية، حينما كانت تواجه الاستعمار الفرنسي، إذ منع الشيخ أحمدو بمبا مؤسس الطريقة المريدية من استيراد المصاحف من إستانبول، وكان أكبر سند له في مده بالمصاحف أهل تكماطين.
وتتعدد الآراء في أصل كلمة المحظرة فالبعض يرى أنها مشتقة من حضور الطالب درس الشيخ، وآخرون يرون أنها مشتقة من الحظيرة نتيجة لطبيعة المساكن التي كان يأوي إليها الطلبة، وهناك من يرى أنها أتت من الحظر؛ لأنه يحظر على طلابها القيام بأي فعل يحرمه الشرع، بينما يرى أحمدو بمبا أن كلمة محظرة مشتقة من الحضرة الصوفية لأنها كانت رباطات توزع العلم نورا، والإخاء والمحبة منهجا وسلوكا، وفيما بعد اتسعت وانفصلت واستقل بها رجال الفكر والمدارس الفقهية المتعددة دون أن تتخلى عنها بالكلية الخوانق والرباطات الصوفية.
مآثر المحاظر
وهذه المحاظر كما يقول بمبا كانت وسيلة لترسيخ اللسان العربي فترى الإفريقي يحفظ كتاب الله في حين أنه قد لا يفهم كلمة من العربية. كما كانت المحاظر وسيلة متقدمة في الممانعة ضد الاستعمار الفرنسي فقد كانت تقاطع ذلك الاستعمار، وكان التلامذة في الغالب يشكلون حائط صد أمام الاستعمار، خصوصا في جانبه الثقافي فلم يتمكن الاستعمار من اختراق المجتمع الموريتاني.
ويرى بمبا أن الفضل الحقيقي لشنقيط على الأفارقة هو المحظرة وآلاف الطلاب الأفارقة الذين وفدوا ولا زالوا يفدون لموريتانيا ما جاءوا إلا لينهلوا من هذه المحاظر.
وتختلف مستويات المحاظر وتتباين، فبعضها يقتصر على تحفيظ القرآن الكريم، وبعضها يضيف فقط التجويد والرسم العثماني والقراءات، وبعض المحاظر تحفظ طلبتها المتون، وبعضها يتخصص في الحديث النبوي الشريف، كما يضيف عدد منها التفسير واللغة العربية.
والدراسة في المحاظر لا ترتبط بعدد معين من السنوات، وإنما يعتمد الأمر على مدى ما يريد الطالب تحصيله وعلى الوقت المتاح له للتحصيل، فالطلاب المتفرغون يدرسون طوال العام بينما طلاب المدارس النظامية يدرسون غالبا في العطلة الصيفية فقط.
وتعطي المحاظر إجازات لخريجيها حيث يقوم شيخ المحظرة بإعطاء الطالب إجازة في رسم القرآن أو في الحديث أو الفقه وما إلى ذلك.
ويقابل خريجو المحاظر في موريتانيا مشكلة التوظيف، حيث تقتصر الفرص المتاحة أمامهم في الغالب على العمل كأئمة للمساجد أو تدريس المتون الشرعية في المعاهد المتوسطة والمراكز.
في المقابل يمكن لخريجي المحاظر الالتحاق ببعض المعاهد الإسلامية العليا مثل المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية الذي يقبل خريجي المحاظر عن طريق إجراء مسابقة لدخول المعهد تكون موازية لشهادة البكالوريا، وبعد دخول المعهد والحصول على الليسانس تتاح الفرصة أمام المتخرج لإكمال دراسته العليا في أي بلد أو التقدم لشغل الوظائف العمومية.
موضوع: في محظرة "ولد عم".. عصافير تغرد بالقرآن 
الجمعة أغسطس 28, 2009 4:35 pm
