شادي صلاح الدين - القاهرة
ليس كثيرًا ما يحس القارئ أن مؤلفًا ما لكاتب كان عليه أن يصدر قبل مؤلفات أخرى له، من منظور أن المؤلف القديم أسبق في الرؤية من لاحقه، وهو ما بدا واضحًا في مؤلفي الدكتور جابر عصفور الآخرين، فكم كنت أود أن يصدر كتاب «زمن جميل مضى» لعصفور الصادر مؤخرا في سلسلة «كتاب اليوم»، قبل كتابه «نحو ثقافة مغايرة» الذي صدر أواخر 2007 عن الدار المصرية اللبنانية؛ لعدة أسباب، منها أن «زمن جميل» كتب في الفترة من 1999 إلى 2002 ونشرت مقالاته بجريدة البيان الإماراتية في الفترة ذاتها، أي أنه سبق في كتابته كتاب «نحو ثقافة» بأكثر من خمس سنوات. ومنها كذكل أن «زمن جميل» يبحث في الزمن الماضي، بينما يبحث كتاب «نحو ثقافة» في المستقبل، ومنها أن التفكير بالماضي قد يأسر الباحث فيه خاصة إذا كان يراه زمنًا جميلا، بينما البحث في المستقبل الثقافي المغاير يحتاج إلى نقد للواقع وتخطيط وإعادة بناء. والدافع إلى كلا الكتابين هو الواقع بمشكلاته دون شك، لكن فارقا هناك بين أن تندفع للاحتماء بالماضي أو أن تنطلق إلى التخطيط لعالم أجمل.
لقد اعترف الدكتور عصفور في مقدمة «زمن جميل» بأن تذكره لمشاهد الماضي لا يخلو من معنى الإدانة للحاضر، والرفض للأسباب التي انقلبت بالجمال إلى قبح، وبالمعرفة إلى جهل، وبالاستنارة إلى الإظلام، لكنه احترس أن يكون اللجوء إلى الماضي نوعا من الهرب، أو العودة إلى الرحم، أو تصور أن الماضي أجمل مطلقا من الحاضر، وإنما تذكر الأوجه الإيجابية لزيادتها بالإضافة إليه. وقد ميز عصفور بين نوعين من التعامل مع الماضي: نوع نسب صياغته لأبي تمام في بيتيه:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منــــزل
ونوع آخر نسب صياغته إلى الشاعر التركي ناظم حكمت في شعره:
إن أجمل البحار ما لم نره بعد
وإن أجمل ما أود أن أقوله لك لم أقله بعد
وأوضح قائلا: «أنا من الذين يسلطون أعينهم على المستقبل يحلمون بإمكانياته التي تنطوي على واقع خلاق، أفضل من الحاضر والماضي على السواء».
لكن الناقد المعروف بانحيازه للمستقبل أخذته في كتاب «زمن جميل» أشرعة الماضي، فظل يبحر مضفيا على مفرداته قدرا عاليا من القداسة، فهو أشبه ببحار ماهر يعرف في أي اتجاه يلقي بأشرعته حتى يصل بالراكبين إلى بر الأمان دون أن يشعروا بأدنى خطر، رغم ما في الرحلة من أخطار.
في الكتاب يتحدث عصفور عن خطواته الأولى للقراءة، عن مكتبة البلدية الكبيرة، والعم كامل، ومكتبة المدرسة، والندوات التي كانت تعقدها جماعة أصدقاء المكتبة، وخطواته الأولى إلى عالم النقد والمشاكسة العلمية للأساتذة التي تعكس قدرا كبيرا من الإعلان عن الذات أو التمرد على الأب في صورة المعلمين.
يتحدث عن المسلمين والأقباط الذين جمعتهم مدرسة واحدة، وهموم مشتركة، وأمومة وأبوة يتسعان للجميع، وكأنه ينتقد ضمنا حالات الاحتقان الديني التي تصيب المجتمع المصري في لحظات متفرقة، ملتمسا التسامح واحترام قيم المواطنة فيما عاشه من ماض جميل.
عن الحب الأول والمنزل الأول والسذاجة العاطفية والرومانسية التي سرعان ما نغادرها حينما نفارق عالم الصبا وندخل عالم النضج.
عن عبد الحليم حافظ وإحسان عبد القدوس و«الوسادة الخالية» والحبيبة التي تشبه الهلال المفرط في العلو، فهي الجميلة البعيدة المنال، وهي الجنة المتوهمة.
يتحدث عن جامعة القاهرة التي بدأ رحلته اليومية إليها في أكتوبر 1961، وكلية الآداب التي تتصدر الحرم الجامعي في مواجهة زميلتها كلية الحقوق كما لو كانت الكليتان معا أسدي كوبري قصر النيل الرابضين على مدخل الكوبري كأنهما علامة العبور وبشارته وشارته.
عن طه حسين والتصدي للتقاليد الجامدة، وسهير القلماوي أول امرأة تمنحها القاهرة درجة الدكتوراه، عن العاصفة التي أحدثتها أطروحة الدكتوراه التي جاء بها من السوربون منصور فهمي وحملت عنوان «المرأة في الإسلام».
عن الحداثة الفكرية والأدبية وحرية الفكر والرجال الذين حموا بمواقفهم وصلابة عودهم استقلال الجامعة وكرامة العلماء من أمثال أحمد لطفي السيد وعبد الخالق ثروت وعدلي يكن وسعد زغلول.
عن المعارك الفكرية والصحف ومقالات لويس عوض وسلامة موسى وصلاح عبد الصبور وعبد الحميد يونس.
يتحدث عن تقاليد الأستاذية في زمنه والقيم التربوية المفتقدة في زمننا، وجماليات المعمار، وقاهرة اسماعيل باشا والاسكندرية القديمة، وهدم التاريخ، وذكريات الثورة والزمن الناصري.
يقدم عصفور صورا جميلة من الماضي في لغة بسيطة يملؤها الشجن، لعل مصدره أن الزمن الذي يحكي عنه قد مضى، أو أنه يقدمه بإحساس الفقد فينقل إلينا حزنه الكامن.
العنوان ذاته «زمن جميل مضى» يوحي بذلك الفقد الذي جسدته مقالات الكتاب، فجاءت مرثية مطولة للماضي، وهي مرثية برؤية شاعر، وليست برؤية ناقد محلل، وليس أدل على ذلك من اقتباساته الشعرية المتعددة، وانحيازه العاطفي، ومحاولته العبور سريعا على أشياء كانت تستحق التوقف وإعادة فتح الحوار حولها، والاحتفاء بالاكتشافات الأولى.
وفارق كبير بين ذكره رموز الإصلاح في «زمن جميل» وحواره معهم في «نحو ثقافة مغايرة»، ففي الأول يبدو الإصلاحيون كائنات أسطورية من عالم أخر لا نعيشه، بينما في الثاني هم بشر يقبلون الاختلاف حولهم وتقييم مشاريعهم، والاعتماد عليهم في بناء مشاريع جديدة.
وإذا كان نوع الكتابة الانطباعية الذي استخدمه في «زمن جميل» يقتضي المرور العابر دون الولوج، فقد كان يمكنه تقديم شهادات (شهاداته فقط ثروة) على مواقف مختلفة مرت بها الحياة الأدبية والثقافية، وما تزال لديه الشهادات التي يمكنه أن يقدمها وقادرة على تحريك المياه الراكدة.