شادي صلاح الدين - القاهرة
عن مؤسسة الدوسري للنشر والإبداع صدرت أخيرًا رواية “ابن زريق البغدادي - عابر سنين” لمؤلفها الكاتب البحريني أحمد الدوسري. تقع الرواية في 245 صفحة من القطع المتوسط، وهي في مجملها رحلة عبر التاريخ إلى زمن جميل حين كانت بغداد حاضرة الإسلام وحاضنة الشعر وقبلة الشعراء، إذ يعود بنا المؤلف إلى العام 471 الهجري وتحديدًا بعد انقضاء نحو خمسين عامًا أو يزيد على وفاة الشاعر ابن زريق البغدادي الذي ترك مدينته متوجهًا نحو الأندلس طلبًا للمال وهناك قال قصيدته اليتيمة “لا تعذليه” مخاطبًا بها ابنة عمه التي كانت تنتظر أن يعود بمهرها ولكن صده الأمير الأندلسي، فوضع القصيدة تحت وسادته ثم نام نومته الأبدية.
والرواية تصور البطل في رحلة بحث مضن عن ملابسات موت ابن زريق ومعرفة تفاصيل رحلته من بغداد إلى الأندلس، بناء على طلب من الوزير في بلاط الخلافة واستجابة لرغبة الخليفة نفسه، ولكنه بعد ثلاث سنوات من البحث الشاق يجد نفسه مرغمًا على العودة إلى مدينته إلا أنه يدخلها في الليل متسللًا حتى لا يعرف بخبره أمير المؤمنين فيأمر بقتله، غير أن الشاعر الفقيد يظل هو المحور الذي تدور حوله الأحداث وتتلاقى الشخصيات، ومن اللافت أن المؤلف وفق إلى حد بعيد في اختيار اللغة السردية لروايته مستوحيًا من عصر الخلافة العباسية الكثير من مفرداته ذلك العصر الذي كان يموج بالأدب وبقصص الشعراء وبمآسيهم، ومع الاستغراق في الأحداث تجد الشخصية المحورية نفسها في لحظة امتزاج روحي مع ابن زريق فيتولد الانطباع بأن صاحب الرحلة هو ابن زريق نفسه.
يقول الدوسري في روايته: “لم أر أو أسمع بقصة أعجب ولا أكثر ألمًا ومأساة من قصته دونت كل ما سمعته من الناس، أمراء وحقراء لصوص وقطاع طرق عباد وزهاد تجار وشعراء كل شيء حتى الخان في قرطبة استجوبت صاحبه دون فائدة فقد قال لي بأن والده قد اشتراه من صاحبته قبل أن تموت وأنه لا يعرف أحدًا يعرفها وكل ما يعرفه عن قصة ابن زريق البغدادي هو أن غرفته التي مات فيها تقع في الطابق الثاني ثم دلني عليها وكان يسكن فيها طالب نصراني جاء لتعلم اللغة العربية فرجوته أن يخليها لي لكنه رفض، وعندما نقدت صاحب الخان أبا عبدالله الأعرج (وأظنه لقبه لأنه كان أعرج حقًّا) دينارين ذهبيين توصل إلى حل مرض للطالب إذ تبادلنا غرفتينا لليلة واحدة فنام هو في غرفتي ونمت أنا في غرفته والأصح أنه نام في غرفتي مرتاحًا مطمئنًا ولم أنم أنا في غرفته، الحقيقة أن عيني لم تغمضا لحظة واحدة في تلك الليلة وتخيلت الليلة الأخيرة لأبي الحسن علي ابن زريق البغدادي وهو يتقلى على هذا الفراش حتى فاضت روحه يأسًا وكمدًا وحنينًا وأسفًا.. والله لقد كادت تفيض روحي أنا أيضا فيكون خبري وخبره واحدًا”.
والدوسري بارع في التقاط القصة العجيبة التي تحمل في تكوينها سمات أسطورية تنبع من تجاوزها إمكانات الواقع سواء على المستوى التاريخي، أو على مستوى الراهن، فأي حب، وأية صدمة تورد صاحبها إلى النومة الأبدية؟
إننا نظل مشدودين مع الدوسري لنعرف كيف دار الحوار حول الواقعة العجيبة التي لم يسبق أن حدثت لشخص من العرب أو العجم.
وما يجعل الأمر مثيرًا حقًّا هو الرغبة الداخلية لدى المحبين للوصول إلى ذلك الصدق، وتلك الشفافية، وهو أمر لا يتحقق للكثيرين الذين يحبون أن يتباهوا بأنهم محبون مخلصون، وأنهم وصلوا إلى درجة من المحبة لم يتوصل إليها أحد.
وليست الرواية كتابًا يبحث في حقيقة ما حدث، لكنه يفعل ذلك كذريعة للرحيل باتجاه أسطورة، وإضفاء مزيد من الأسطرة حولها، وليس محاولة لكشف غموضها. فالشخصيات التي يكشف الدوسري عنها لا تزيل غموضًا بقدر ما تزيده، والنوم في غرفة ابن زريق لم يضف جديدًا بقدر ما أكد ما هو معروف عنه، وأنه كان في الليلة الأخيرة له يتقلى يأسًا وحزنًا وكمدًا وحنينًا، أو هكذا تخيله الراوي وهو يبيت في فراشه بعد أن عقد صفقة مع الطالب النصراني الذي سكن الغرفة بعده بخمسين عامًا، وكان يتعلم العربية.