هذا مقال لا أحبه, ولولا أسباب سيقرأها القارئ في متن هذا المقال لهربت من كتابته ووليت فرارا (من كلمات الدكتور محمد عباس وسوف أستكثر من استعارتي لما كتب في مقاله: عرس الشهيد).
إذ يتكرر الحديث الفينة بعد الفينة عن الأستاذ سيد قطب رحمه الله, فما إن ينتهي جدل إلا ويبدأ جدل, وكأن الله أراد أن يكتب لهذا الرجل أن يظل حيا بين الناس, فقد كان ثمة جدل منذ أيام قليلة حول ما أثاره الرجل الجليل الدكتور أيمن الجندي حول إعادة تقديم الظلال تحفظ ما فيه من درر وتنفي عنه ما شابه في بعض الكلمات والمعاني, ثم كان حديث الدكتور القرضاوي مجددا ومكررا عن الأستاذ سيد قطب في أن ما كتبه خروج على أهل السنة والجماعه, ومن الأهمية بمكان أن أبدأ بهذه المحددات:
القرضاوي يتساءل هل يكفّر "سيد قطب" مسلمي اليوم؟
أولا: قامة الدكتور يوسف القرضاوي في الفقه شهد بها ذوي العلم والفضل, ومن ثم لا يحق لي إبداء الرأي في شخصه أو علمه أو رأيه, يصفه د.محمد عباس في مقالته التي عتب فيها على القرضاوي عندما هاجم سيد قطب:
[لو أن قائلا قال لي أن الشيخ القرضاوي أعلم أهل الأرض الآن لما استنكرت..ولو أن سائلا سألني من هو أقرب علماء أهل الأرض إلى قلبك لكان اسمه في السطر الأول، ولو أننا صنفنا العلماء المعاصرين بغزارة الإنتاج لنافس شيخنا على المركز الأول بجدارة، بل وأظننا لن نجد من يطاوله..ولو أننا اعتمدنا القيمة والاعتدال والوسطية لكان الرائد بلا منازع]
ثانيا: قامة الأستاذ قطب قامة لا يطاولها أحد في زمانه, وهذا شهد به إقبال الناس والشيوخ والعلماء والدعاة على كتبه, وكم تصدي علماء للدفاع عنه عندما هوجم, وكم كتب كثر من أهل العلم والفضل حبا ودفاعا عنه.
ثالثا: اختلف الناس ولا يزالون في الأستاذ قطب, كما اختلفوا في الدكتور القرضاوي, كما اختلفوا من قبل في آئمة الأمة العظام، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
رابعا: كل منا يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم عليه الصلاة والسلام
خامسا: لا يمكن تقييم أي عمل إلا في سياقه, فالذي يسب ويشتم تحت أثر السياط ليس كمن يشتم ويسب وهو في غير ذلك, والذي ينطق بالكفر مرغما, ليس كمن ينطق بالكفر وهو غير مرغم (فلكل حكم).
وإذا راجع أهل العلم فتاوي الإمام ابن تيمية والتي قد يجدون في بعضها تشددا (خاصة ضد أهل الكتاب) لا يمكن أن يتجاهل السياق التاريخي لتلك الكلمات والفتاوى, إذ كانت الأمة تحت نير الإحتلال الصليبي في الشام والتتري في بغداد, وقول الشيخ القرضاوي أنه لو عاش الأستاذ سيد قطب حتى الآن لغير من كلماته وآرائه هو قول صحيح (ولا يعني ذلك بالمطلق الإقرار بخطأ ما كتبه قطب).
وأضيف:أن الشافعي عندما امتد به العمر وعاش في مصر فإنه غير في بعض ما قاله في بغداد, ولو عاش الإمام البنا لغير في بعض ما قال, ولو عاش أي أديب أو مفكر أو عالم لغير في بعض ما قال, وكم نرى للكاتب الواحد في المؤلف الواحد من تغيير وتعديل وتصويب وإضافة عند إعادة طباعة ما كتب, ويستوي هذا القول مع أي أحد وليس قطب فقط, إذ يظل ثمة قول واحد وكتاب واحد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, هو قول الله, كما وصف سبحانه كتابه في أول سورة في المصحف بعد الفاتحه (الم, ذلك الكتاب لا ريب فيه).
مسئولية قطب عن العنف
سادسا: سيد قطب ليس مسئولا عن فهم مغلوط لما قال, والذي ترتب عليه رفع السلاح وممارسة العنف داخل الأوطان الإسلامية, ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ).
سابعا: أود أن يكون حاضرا وبشدة التوصيف المهني للرجلين الجليلين, فقد كتب الدكتور القرضاوي شعرا لكنه لا يتقدم للأمة بوصفه شاعرا كشوقي أو حافظ, وكتب فكرا لكنه لا يتقدم للأمة بوصفه مفكرا كالعوا أو البشري أو عمارة، لكن القرضاوي يتقدم للأمة باعتباره فقيه بامتياز (رسالة الدكتوراه في الفقه, وأشهر كتبه الحلال والحرام هو فقه, وآخر مؤلفاته عن الجهاد هو فقه), أما الأستاذ سيد قطب هو أديب ومفكر بامتياز بالإضافة إلى أنه مهموم بدينه وبدعوته, يتحرق شوقا لنصرة الإسلام واستعادة مجده.
وقطب لم يدع أنه يقدم تفسيرا لكتاب الله ولكنه بدقة بالغة قال (في ظلال القرآن), كما أنه لم يدع أنه عالم, ولم يدع أنه فقيه, ولم يكتب في الفقه, ومن ثم فلا أرى أنه فيما يكتب أنه يؤسس أحكاما, لكن المشكلة أن يلتقط أحد من كلام الرجل الأدبي الرصين ويتم تأويله على أنه فقه (أو تأسيس لأحكام), وأضرب مثلا بسيطا سهلا سطحيا, لو كتب كاتب عن الطهارة (قاصدا طهارة الروح والنفس مثلا), وكلمة الطهارة لها مدلول فقهي ولها أحكام فقهية, فسيكتب الفقيه عن الطهارة (فقها) غير ما يكتب (الأديب) عن الطهارة (معنى).
وهنا لب الاختلاف, فالقرضاوي فقيه, ويزن الكلمات بميزان الفقه, ويرى مدى جوازها ومدي حرمتها. أما قطب فيكتب عن المعاني, وقد يستخدم كلمات لها مدلول فقهي, فإذا قرأها الفقيه (بفقهه) فقد لا يقبل بعضها ويضطر لنقدها, بينما يقرأها المسلم العادي (وهم أكثر الناس) فيتأثر بها نفعا وسدادا ورشادا.
لنفهم حينئذ أن قراءة هؤلاء جميعا لم تكن قراءة لتأسيس أو تكوين أحكام, لأنني أرى أن الباحث عن الحكم الفقهي في مفردات (الجاهلية, الحاكمية, التكفير) لا يبحث عنها إلا في كتب الفقه, ولا أعتقد أن قارئ الظلال مثلا، هو قارئ باحث عن أحكام فقهيه. لكنه قارئ يريد أن يستنفر همته ومشاعره استشعارا بحلاوة القرآن وعذوبته وجلاله وهيبته.
هل سيد قطب مسئول عن فكر العنف؟
والذي أراه في هذه القضية أن يقال أن كتب قطب ليست كتب فقه, إنما هي عصارة دم وفكر وروح متفانية للإسلام, فقدم معاني مضيئة منيرة جاذبة للنفس والروح حبا لله ولكتابه ولدينه.
ولست أرى في كل كتب المعاصرين والمتأخرين روحا تسري في الكلمات كالروح التي تسري في كتب الاستاذ سيد رحمه الله, ولست أرى أثرا في النفس تحدثها كتب حبا لله ولرسوله ككتبه.
فقد يجد المسلم والباحث في غير كتب الاستاذ قطب علما أكثر من علمه, وفقها أفضل من فقهه (وهو ليس بفقيه) , وتأصيلا أفضل من تأصيله, لكن لا أرى روحا تسري في الكلمات أكثر من كتب قطب, ولا أرى عذوبة كعذوبة كلماته.
كيف يصف القرضاوي سيدا؟
لنعترف منذ البداية بأن الشيخ يوسف القرضاوي يقدر الشهيد سيد قطب تقديرا كبيرا فيقول عنه:
لا يشك دارس منصف ولا راصد عدل في أن سيد قطب مسلم عظيم، وداعية كبير، وكاتب قدير، ومفكر متميز، وأنه رجل تجرد لدينه من كل شائبة، وأسلم وجهه لله وحده، ولا ريب أنه قضى سنوات عمره الأخيرة وهو في السجن يجلي الفكرة، ويشرحها بقلمه المبدع، وبيانه العذب، وأسلوبه الأخاذ. كما لا ريب أن كتبه تعطي قارئها شحنة روحية وعاطفية دافقة ودافئة ودافعة، توقظه من رقود، وتحركه من سكون؛ لما فيها من حرارة وإخلاص.
حول الخلاف وشبهة التكفير
تصدى الدكتور العلامة بكر أبو زيد عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية لطويلب علم (تصغير طالب) أسمه ربيع المدخلي ( على ما أتذكر ) فند فيه أراء المتجني على الأستاذ قطب رحمه الله.
وكان مما سمعته بنفسي وجها لوجه من حديث إمام الحرم المكي عن أهمية كتب الأستاذ قطب, وقال وصفا لكتبه: فيها وفيها ( أي من الصواب والخطأ) وهذا لا يعرفه إلا المتخصص, وقال إنه يجب على الدعاة وطلبة العلم أن يقرأوا ما كتب (بلفظة يجب) واستشهد ببعض عبارات المعالم القيمة عن الصحب الكرام وروعة وصف قطب لهم أنهم: "جيل قرآني فريد".
إن كثيرا من المسلمين المعتلين يقرأون كتب الأستاذ سيد ويتأثرون بها, وهم من أهل الإعتدال والوسطية والبعد المطلق عن العنف, ولم يلجأ هؤلاء القراء من ملايين المسلمين إلى العنف تأسيسا على أفكار الأستاذ قطب.
يقول د.عباس: لم أكن أتصور ولا أريد من شيخنا القرضاوي أن يتغاضى عما يراه أو يتصوره من أخطاء عند الشهيد، وهو ليس معصوما بأي حال، وليس هناك من ادعى ذلك أبدا، وكنت أتصور أن يعرض الشيخ فكره بمنهج أن رأيه صواب يحتمل الخطأ بينما رأي قطب خطأ يحتمل الصواب، لكن شيخنا لم يفعل ذلك، لقد كان حادا كالسيف، مُدينا دون احتمال للبراءة، وكانت هناك طرق كثيرة تصورت أن الشيخ الجليل سيستخدمها لتصويب ما رآه خطأ، ولكنه لم يفعل ما تصورته. وإنني – أنا الضعيف الخطاء- أتجرأ فأسأل شيخنا الجليل:إذا كان القرآن وهو كلام الله حمال أوجه فكيف يكون كلام الناس.
كما أسأل شيخنا الجليل وهو الضليع في اللغة والأدب والفكر، أسأله عن مفهوم اللغة واللفظ والدال والمدلول، وأسأله هل توجد قراءة واحدة لأي نص تلغي ماعداها.وأسأله: فكيف نواجه إذن شيوخا أجلاء اختلفوا مع شيخنا الجليل فيما ذهب إليه.
كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه- الأستاذ عمر التلمساني في كتابه "ذكريات لا مذكرات" حين يقول:
وما أراد الشهيد الأستاذ سيد قطب في يوم من الأيام أن يكفِّر مسلمًا؛ لأنه من أعلم الناس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أكثر من حديث :"إن مَن قال لا إله إلا الله موقنًا بها قلبه لن يخلد في النار". ونحن نعلم أنه لن يخلد في النار إلا الكافرون! وهم الذين ينكرون وحدانية الواحد القهار! هذه واحدة.
والثانية: إن كثرة ترداده "للمجتمع الجاهلي" لم يقصد بها تكفير المجتمع، ولكن تشديد النكير على الظلمة والطغاة والمستغلِّين والمشكِّكين، وهو أسلوب تعرفه اللغة العربية.
والذين يعرفون الشهيد قطب، ودماثة خلقه، وجمَّ أدبه، وتواضعه، ورقة مشاعره، يعرفون أنه لا يكفِّر أحدًا!..إنه داعية إسلامي، من عيون دعاة المسلمين، ظلمه من أخذ كلامه على غير مقاصده، ومن هاجموه متجنِّين، لما رأوه من عميق تأثير كلماته وكتاباته على الشباب الطاهر النظيف.
تكفير عامة المسلمين
زينب الغزالي
كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه- المجاهدة زينب الغزالي حين تقول إنها سألت الشهيد عن اتهام البعض له بأنه يكفر عامة المسلمين فاستغربَ نفسُه هذا القول! وبيَّن أن هذا فهم خاطئ لما كتبه.. وبيَّن أنه سيوضِّحُ هذا في الجزء الثاني من "المعالم".
كيف أواجه – ولا أقول تأدبا كيف يواجه - الأستاذ عبد الحليم خفاجي في كتابه "عندما غابت الشمس" حيث أكد أن فكرة التكفير نبَتت في السجون، من قِبَل بعض الشباب، وأنهم ادَّعوا نسبتها لسيد قطب، وزعموا أنه يقول بها، وهذا في حياته، فتبرأ من ذلك!
إن القارئ المتمعن لكتب الشهيد سيكتشف مذهولا أنه كان بعيدا – ربما لدرجة تستدعي العتاب ممن يجرؤ عليه- عن المبادأة. وأنه إن عوتب فعلى عدم اقتران الدعوة بجهاد كالذي مارسه الإخوان في فلسطين وعلى القناة، لقد كان تركيز الشهيد كله على بناء العقيدة في الأمة المسلمة، فلم يبح المواجهة إلا دفاعا عن النفس، وبشرط القدرة، وخوفا من القضاء على الجماعة المسلمة، فإذا انتفى هذا انتفى ذاك.
ثم يقول د.محمد عباس تعليقا على موت قطب: أحس بالخسارة الفادحة التي ألمت بنا بفقدان أمة في رجل هو أعظم من فسر القرآن عبر قرون.
وأختم : شكر الله د.عباس كلماته, وشكر الله للدكتور القرضاوي حرصه الفقهي على بيان الأحكام, وشكر الله للأستاذ سيد قطب سيد رحمه الله وتقبله اللهم بين الصديقين والنبيين والشهداء وحسن أولئك رفيقا".