ربما ليست هذه هي المرة الأولى التي تدور فيها المعارك في الشمال النيجيري بين الشرطة ومن يوصفون بالمتشديين الإسلاميين، لكن بلا شك فإن الصدامات الأخيرة هي الأكثر عنفا في ولايات الشمال الإسلامية والتي تم تطبيق الشريعة الإسلامية فيها منذ عام 2000.
وطبقا لمصادر نيجيرية فإن هناك أكثر من مائتي شخص قتلوا في أربعة أيام من الاشتباكات التي اشتعل فتيلها الأحد 26 يوليو 2009 عبر هجمات شنتها جماعة إسلامية مسلحة عرفت إعلاميا باسم "بوكو حرام"، وهي كلمة تعني بلغة الهاوسا المحلية "التعليم حرام"، والمقصود هو التعليم الغربي، وتتبنى الجماعة طروحات إسلامية متشددة، وكانت قد بدأت هجماتها على أقسام الشرطة تلتها هجمات على كنائس في ولاية بوتشي، ثم امتدت لتشمل ثلاث ولايات أخرى هي بورنو وكانوا ويوبي.
معقل الجماعة
تعتبر مدينة "مايدوغوري" عاصمة ولاية بورنو شمال شرق نيجيريا هي معقل جماعة "بوكو حرام"، لكن عناصر الجماعة ينتشرون في عدد من الولايات الأخرى، وقد شهدت مايدوغوري قتالا عنيفا على مدى الأيام الماضية بين الإسلاميين وقوات الشرطة والجيش النيجيري قتلت خلالها الشرطة عددًا كبيرًا من أعضاء الجماعة، ونتيجة لتصاعد عمليات القتال أضطر آلاف السكان إلى هجر منازلهم.
تعرف جماعة "بوكو حرام" أحيانًا بـ"اليوسفية" نسبة إلي زعيم الجماعة في "مايدغوري" محمد يوسف، وهو داعية إسلامي معروف يبلغ من العمر 39 عامًا، وحسب الصحفي النيجيري في موقع إسلام أون لاين "مفتاح أديولي أولالي" فإن محمد يوسف، الذي تسعى الشرطة إلى إلقاء القبض عليه، ربما يكون الناطق باسم الجماعة وليس القائد الميداني لها.
وعلى الرغم من أن يوسف محمد والذي كان قد تعرض للاعتقال مرتين خلال السنوات الماضية، زعيم الجماعة؛ فإنه انتقد عناصر الجماعة في تصريحات له نشرتها وكالة الصحافة الفرنسية 2006، وقال: "إن هؤلاء الشبان المتشددين درسوا القرآن معي ومع آخرين ثم رغبوا بمغادرة المدينة التي اعتبروها مدنسة، وذهبوا إلى الجبال معتبرين أن المسلمين الذين لا يشاركونهم أفكارهم هم من الكفار".
وقال: "حتى أنا ينظرون إليّ على أنني كافر"، موضحا أنه حاول مرارا هدايتهم من دون جدوى، وأن العديد من الأصوليين من مناطق أخرى من نيجيريا انضموا إليهم.
وأضاف: "أعتقد أن حكم الإسلام يجب أن يقوم في كل نيجيريا، وفي كل العالم إذا أمكن، ولكن عبر الحوار"، موضحًا أنه لا يزال يدرّس القرآن لـ"نحو ثلاثة آلاف طالب".
مجموعات متعددة
تنتشر جماعة "بوكو حرام" وغيرها من المجموعات الإسلامية في منطقة الحدود الشمالية مع تشاد والنيجر، ومما يسهل من انتشارهم هناك أن سلطة الدولة في منطقة الحدود ضعيفة، وليس هناك وجود عسكري أو أمني قوى، وهي أيضا منطقة حدود مفتوحة تسمح بالدخول والخروج بسهولة، وبعض عناصر هذه الجماعة من التشاديين الذين تسللوا عبر الحدود حسبما يقول "مفتاح"، وهناك مجموعات هربت عبر الحدود بعد هجمات عام 2004 بين الشرطة والجماعة وجميعهم قد عاد بعد الهدوء الأمني واحدا تلو الآخر.
ويشير الصحفي النيجيري إلى أن هناك أكثر من مجموعة إسلامية متشددة في ولايات الشمال، وليس مجموعة واحدة، ولكل مجموعة قيادة منفصلة وبين هذه المجموعات الكثير من الخلافات والصراعات حتى أن إحدى هذه الجماعات قامت بقتل أحد الأئمة داخل مسجد.
و"بوكو حرام" هي إحدى هذه الجماعات المتشددة التي ترفض الواقع وترفض تطبيق الشريعة بشكله الحالي؛ ولذا خرجت على سلطة الحكومة متجهة إلى مناطق الأدغال والحدود بحثا عن حياة ليس فيها معاصٍ وفساد ورذيلة، ويؤكد أن البعض قد ينضم إلى صفوف "بوكو حرام" في حال استمرت عمليات القتل من قبل الشرطة والجيش.
أفكار متشددة
بعض المنازل المتهدمه جراء الإشتباكات
كان الظهور الأول للجماعات المتشددة في العام 2004 حيث هاجمت مراكز الشرطة في ولاية كانما في الشمال، ومنذ ذلك الحين عرفت هذه الجماعات باسم طالبان نيجيريا لأنها تقترب في رؤاها ومسلكياتها من نهج حركة طالبان الأفغانية، وتعرف مناطق تمركزها باسم "طالبان لاند" أي منطقة طالبان، وتتشكل هذه الجماعات من الطلبة المتشددين، الذين ينحدرون من أسر إسلامية متدينة، بعضهم تم طرده من الدراسة الجامعية، وبعضهم ترك الدراسة برغبته اعتراضا على مناهج التعليم الغربية فيها، وهؤلاء يشكلون الجانب الأكبر من الأعضاء، كما أن بعض الشباب ينخرط في صفوف هذه الجماعات بدافع اليأس من الحياة، وعدم وجود فرص عمل جيدة، ومناطق نفوذ هذه الجماعات برمتها تعاني من نقص الخدمات والفقر، فهي "neglected aria" أو منطقة مهملة بحسب تعبير "مفتاح أولالي".
تعرف طالبان نيجيريا أيضا باسم حركة "الهجرة"، ويعود ذلك إلى هجرتهم للمجتمع النيجيري "المدنس"، فالمجتمع بالنسبة لهم غارق في الفقر الأخلاقي والسياسي؛ ولذلك فإن أفضل شيء للمسلم المتدين ـ من وجهة نظرهم ـ هو هجر الخطايا والفساد إلى مكان أو مجتمع تتحقق فيه العدالة الإسلامية، والوسائل الشرعية في الحصول على الرزق،وهم بهذا يعتقدون أنهم ينقذون أنفسهم من عبء التعامل مع المجتمع.
ليس هناك دافع واحد وراء قيام الجماعة بالهجمات الأخيرة، لكن "مفتاح أولالي" يقول: إن هذه الجماعة تهدد الحكومة منذ عدة سنوات باستهداف مراكز الشرطة، وهم يحرضون علىقتل رجال الشرطة والجنود باعتبارهم "كفارا" ويدعون المسلمين في البلاد لرفع راية الجهاد للدفاع عن الإسلام وإقامة العدل، كما أنهم يدعون للقيام بعمليات في المدن التي لا تطبق الشريعة الإسلامية، خصوصا ضد من يتخلق منهم بأخلاق الغربيين، فالجماعة ترفض نظام التعليم الغربي، ومن دوافعهم أيضا إطلاق سراح السجناء من الإسلاميين، والحصول على الأسلحة والمعدات لضمان استمرار عمليات الجهاد كما تعتقد الجماعة.
تطبيق الشريعة
توجد 12 ولاية في شمال نيجيريا ذات الأغلبية المسلمة تطبق فيها الشريعة الإسلامية بعد عودة الحكم المدني عام 1999، لكن "جماعة بوكو حرام" لا تعترف بالتطبيق الحالي للشريعة بدعوى أن هناك أحكاما كثيرة تخالف القرآن، والجماعة تطالب بتطبيق الشريعة في كامل البلاد.
يقوم على تطبيق الشريعة مجموعة من المحاكم الإسلامية لها جهاز شرطة خاص يقوم بتنفيذ القوانين والحدود، وهذه المحاكم ـ حسب مفتاح ـ تتبع سلطة الولاية، وهي موجودة في الشمال قبل الاستعمار الإنجليزي لنيجيريا، وجاء قرار تطبيق الشريعة عام 2000 فقط ليعترف بهذه المحاكم دستوريا، فهذه المنطقة معروفة بإسلاميتها، حيث كان يتم إرسال الطلاب إلى تحصيل العلوم الإسلامية في الأزهر الشريف، وحتى الآن يوجد رواق بالأزهر يعرف بـ"الرواق البروناي" نسبة إلى ولاية برونو.
الحكومة وسلطة رجال الدين
اجهزة الامن تتفقد الجثث بعد الاشتباكات الاخيره
يتمتع الداعية أو رجل الدين بسلطة كبيرة داخل الجماعة المتشددة تتفوق على سلطة الحكومة، ويقول "مفتاح أولالي": إن هذه الجماعات تعتبر الصدام مع الحكومة، وقتل رجال الشرطة والاستيلاء على الأسلحة نوعا من الجهاد في سبيل الله، وفي حال استمرت الحكومة في قتل وتصفية هذه الجماعات فإن الأوضاع برأيه مرشحة للتصاعد إلى ما لا نهاية؛ لأن المجتمع الإسلامي في الشمال النيجيري بشكل عام لا ينبذ هؤلاء المتشددين على طول الخط نتيجة لميراث الحروب وأعمال الفتنة الطائفية الكثيرة أصبح الخطاب المتشدد وشعار الجهاد في سبيل الله الذي ترفعه هذه الجماعات يلقى رواجا خاصة بين الشباب، وهذا الدعم البشري بدوره قد يعطي المجموعات قوة في مواجهة الحكومة في الفترة القادمة.
وهذا ليس دليلا على القبول بفكر الجماعة لدى كافة شرائح المجتمع كما يتحدث الصحفي النيجيري، فالغالبية العظمى ترفض هذا الفكر المتشدد والدليل على ذلك أن عدد أعضاء هذه المجموعات لا يتعدى المئات، لكن قدرتهم على التعبئة الدينية والحشد المعنوي لأنصارهم والحدود الجغرافية المفتوحة، كلها عوامل تساعدهم على الاستمرار وممارسة الكر والفر في عملياتهم العسكرية، ولعله من الأهمية أن نشير في هذا الصدد إلى أن كافة المؤسسات الإسلامية الرسمية ترفض ممارسات هذه الجماعات، وتدعوهم إلى التراجع عن أفكارهم المتشددة وخلال الأيام الماضية أصدر عدد من الهيئات الدينية بيانات يرفض هذه العمليات ووصفتها بأنها مخالفة للشريعة الإسلامية.
ردود الأفعال على الأحداث تظهر أن الكتل الحركية والمنظمات الإسلامية في نيجريا لا تؤيد أعمال ونهج "بوكو حرام"، فقد أصدرت "جماعة تعاون المسلمين في نيجريا" التي تعبر عن خط الإخوان المسلمين بيانا حمل توقيع رئيسها داود عمران ملاسا استنكر هذه الأعمال التي تضر بالمسلمين، وأكد أن المسلمين "لا يحتاجون إلى هذه الأفكار التكفيرية والمتطرفة التي تستهدف وحدة المسلمين وتشوه صورة الإسلام والمسلمين".
مواقف الإسلاميين
وفي تصريح خاص لموقع "الإسلاميون.نت" اعتبر زعيم جماعة تعاون المسلمين ما حدث "مؤسف جدا" وحول موقف هذه الجماعة من التنظيمات والقوى الإسلامية الأخرى أشار إلى أن هذه الجماعة تكفر غيرها من باقي الجماعات والتنظيمات الإسلامية في البلاد، بحجة أنهم يعيشون في مجتمع كافر ويتعلمون في مدارس غربية، فلذلك "لا يصلون خلفنا ولا يصومون معنا، ويعتبروننا مرتدين عن الدين"، وحول حقيقة دور "محمد يوسف" داخل الجماعة، قال عمران ملاسا: إن محمدا يعمل مدرسا في المدارس العربية والإسلامية في مدينة (ميدوجري) وكان زعيمهم ولكن انشق عن جماعته، وهو الآن اختفى عقب الأحداث الدامية".
وفي السياق ذاته أدان مؤتمر المنظمات الإسلامية الذي يجمع المنظمات الإسلامية في نيجريا الهجمات، قد تدفع ردود الأفعال هذه إلى طرح تساؤلات تتعلق بإمكانية توتر العلاقة بين "بوكو حرام" والقوى الإسلامية في نيجريا التي تعترض على سلوكيات هذه المجموعات وأفكارها، خاصة أن هذه العلاقة المأزومة التي تصل إلى حد الاشتباك العنيف بين هذه المجوعات والقوى والتنظيمات الإسلامية المخالفة لها يعرفها أكثر من بلد وخاصة في الفضاء الإفريقي.
--------------------------------------------------------------------------------